صلة الأرحام تُخفِّف الحساب وتدخل الجنة



صلة الرحم ممّا يعدُّ من فضائل هذا الدين الحنيف وخصائصه التي يمتاز بها. فهي علامة كمال الإيمان وحسن الإسلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه "[1] .

ومن أعظم القربات, وأنفع الأعمال التي يكون بها صلاح المجتمع والأسرة, ويضاعف الله لمن يصل القرابة الحسنات – للحديث «لهما أجران أجر القرابة وأجر الصّدقة "[2]" لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك "[3]والسّعة في الأرزاق والبركة في الأعمار[4]. واكتساب رضى الرّبّ ومحبّة الخلق.

وتقوي أواصر العلاقات الاجتماعيّة بين أفراد الأسرة الواحدة والأسر المرتبطة بالمصاهرة والنّسب حتّى يعمّ المجتمع كلّه.واستصحاب معيّة النّصر، والتّأييد من الله القويّ العزيز للواصل للأرحام وإن كانوا كفّارا، أو فجّارا، أو مبتدعة وتقوّي الصّلة بقرب العلاقة وهي للأقرب أقوى منها للأبعد فليلقِ أبناء اليوم – وكل يوم - بالَهم إلى ذلك، وليجعلوه دائماً نصب أعينهم، إن كانوا يريدون الخيرَ لأنفسهم، وإلا فلا يُبعد الله إلا من ظلم ـ

وفي مختار الصحاح: (الرحم القرابة) [5]سميت القرابة رحما لأنها داعية التراحم بين الأقرباء, والمراد: محبتهم وموالاتهم والإحسان اليهم, وهي أثر من آثار الرحمة, فالقاطع لها منقطع من رحمة الله ، قال ابن الأثير: ذوو الرحم: هم الأقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب - قرابة - ويطلق في الفرائض - علم المواريث - على الأقارب من جهة النساء. ويقال: رَحِم ورَحْم ورِحْم، وهي مؤنثة[6] ، ومما ورد في صلة الرحم: فى التنزيل: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وفي قراءة: والأرحامِ بالخفض، والمعنى: تساءلون به وبالأرحام، وهو قولهم: نشدتك بالله وبالرحم. . ..

 وقال صلى الله عليه وسلم: (الرَّحم شُجْنَةٌ من الله - وفي رواية: من الرحمن - معلقة بالعرش تقول اللهمَّ صِلْ من وصلني واقطع من قطعني). . . قال الجوهري: الشُّجنة بالضم والفتح والكسر: عروق الشجر المشتبكة، وبيني وبينه شُجنةُ رَحم: أي قرابة مشتبكة، كاشتباك العروق، شبهه بذلك مجازاً واتساعاً وأصل الشجنة. شعبة من غصن من غصون الشجر ثم استعمل اتساعاً في الرحم المشتبكة[7] .

وفيه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وهي توصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، أي : آتوهم حقهم : صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة إن كانوا مياسير، وتعهدهم بالمال إن كانوا عاجزين عن الكسب[8] ويجب مواصلتها, بالتناصح, والعدل والانصاف, والقيام بالحقوق الواجبة, والنفقة على المعسر منهم , والتغافل عن زلاته, فتكون بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء, وإيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر[9].

 وهي واجبة في الجملة وقطيعتها كبيرة والآيات والأحاديث تشهد لهذا، وهي درجات بعضها أرفع من بعض. وكان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم: منهم مَن كان يؤثر أقرباءه بالولايات والعِمالات وإسناد أمور الدولة إليهم، فإنما كان ذلك - بعد كفاية الأقرباء واستحقاقهم - للبر صِرْفاً، أي امتثالاً لأمر الله في وجوب صلة الرحم، ومنهم من كان يؤثر الأجانب ويُقصي الأقارب ويحرمهم أعمالَ الدولة. فإنما كان ذلك للبر أيضاً، إذ كان ذلك إمعاناً في التورع والتأثم وتَركاً لما يريب إلى ما لا يريب. . . وفي ذلك يقول الخليفة عثمان رضي الله عنه: كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجهِ الله، وأنا أعطي قراباتي لوجه الله، ولن يُرى مثلُ عمر . أي لن يبلغ إنسان مبلغه في الحزم والسياسة الرشيدة وضبطِ النفس أن تسترسل مع ما يُشبه الهوى. . . يعني أن عمرَ أفضلُ مني، رضي الله عن الجميع[10]. وصلة الرحم تُنْسىء في الأجل، وتثري المال، وتجمع الشمل وتكثر العدد، وتعمر الديار، وتعز الجانب

 وقطيعة الرحم تورث القلة والذلة، وتفرق الجمع، وتذر الديار بلقعاً وتذهب المال، وتطمع العدو، وتبدي العورة.[11] تذاكر قوم صلة الرّحم وأعرابي جالس، فقَالَ: منسأة فِي العمر، مرضاة للرب، محبّة فِي الأهل[12] وأصله فى الصحيحين .

 صلَة الرَّحِم تخفف الْحساب ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: بِخَيْرٍ، كَمَا يَقُولُ الْمُغْضَبُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أمَا عَلِمْتَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُخَفِّفُ الْحِسَابَ؟ فَقَالَ: لَا تَزَالُ تَجِيءُ بِالشَّيْءِ لَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتْلُو عَلَيْكَ بِهِ قُرْآنًا، قَالَ: وَذَلِكَ أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَاتِهِ، قَالَ: قَوْلُهُ عز وَجل: " الَّذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سوء الْحساب ". قَالَ: فَلا تَرَانِي بَعْدَهَا قَاطِعًا رَحِمًا.[13] 

وتكفير السيئات فى الصحيح ". أصبت ذنبا عظيما فهل من توبة؟. قال: «هل لك من أمّ؟» قال: لا. قال: «هل لك من خالة؟» قال: نعم. قال: «فبرّها"[14] .

 وسبيل إلى الجنة ففى الصحيح من أهل الجنّة ثلاثة:.رجل رحيم رقيق القلب لكلّ ذي قربى ومسلم"[15].

والصلة بقاء والقطيعة فناء. والصلة قوة وأخوَّة, فمن أعانه إخوانُه عظُم شأنه, وكثر أعوانه فصلة العشيرة نعمة كبيرة, فبادر بالإحسان اليهم يكثر مالك, ويسعد حالك, ويبارك في عمرك, فواسهم بالمال واحسن اليهم في المقال, فمن لم ينفع الأهلَ مالُه مات ولم تجزع عليه أهله وأقاربه.

 عن كعب الأحبار قال: والذي فلق البحر لموسى بن عمران إن في التوراة لمكتوبا، يا ابن آدم اتق ربك وبر والديك وصل رحمك، أزد في عمرك، وأيسر لك في يسيرك، وأصرف عنك عسيرك.[16] .

وهي عنوان البِرّ والحديث: (خيركم خيركم لأهله)، حث على صلة الرحم ، ومن المأثورة فى ذلك: «إنّ الله يبقي أثر واصل الرّحم طويلا فلا يضمحلّ سريعا كما يضمحلّ أثر قاطع الرّحم»[17] ".

 " لدرهم أضعه فى قرابتي أحبّ إليّ من ألف أضعها في فاقة. قال له قائل: يا أبا محمّد، وإن كان قرابتي مثلي في الغنى. قال: وإن كان أغنى منك»[18] "ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجرا من خطوة إلى ذي الرّحم»[19].

(قال ابن المسيّب- وقد ترك دنانير «اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أجمعها إلّا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويصل رحمه، ويكفّ به وجهه»[20]
------------------
[1] البخاري- الفتح 10 (6138) . واللفظ له، ومسلم (47) .
[2] البخاري- الفتح 3 (1462) من حديث أبي سعيد. ومسلم (1000) واللفظ له.
[3] البخاري- الفتح 5 (2592) وهذا لفظه. ومسلم (999) . وفى رواية عند مسلم: ثم أدناك أدناك.
[4] البخاري- الفتح (10/ 429) وقال الحافظ ابن حجر: عند أحمد ورجاله ثقات. وفي أحمد (6/ 159) : عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «إنّه من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة ... إلى آخر الحديث» ، والترغيب والترهيب (3/ 337) وقال: رواته ثقات إلا أن عبد الرحمن بن القاسم لم يسمع من عائشة.
[5] مختار الصحاح للرازي, ص238
[6] الذخائر والعبقريات (1/ 36)
[7] الذخائر والعبقريات (1/ 37)
[8] الذخائر والعبقريات (1/ 17)
[9] صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال (2/ 131)
[10] الذخائر والعبقريات (1/ 38)
[11] التعازي [والمراثي والمواعظ والوصايا] (ص: 153)
[12] أمالي القالي (1/ 213)
[13] الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (ص: 233)
[14] ذكره الألباني في صحيح الترمذي (1554) واللفظ له في هذا الموضع.
[15] مسلم (2865) .
[16] المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 262)
[17] الطيبي فتح الباري (10/ 430)
[18] عطاء: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (62)
[19] عمرو بن دينار : مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (62)
[20] الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 269) .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين