صلابة رجل...

الشيخ محمد الغزالي

العاطفة الأولى تجاه شيء ما تحدد ـ إلى أمد بعيد ـ موقف الإنسان منه وسلوكه معه، فإذا فوجئ الإنسان بروع فثبت له ولم تأخذه دهشة المباغته كان حرياً أن ينجح في مقاومته، وأن تكون له العقبى وإن طالت مراحل الكفاح.
أما إذا انتابه الفزع وطار قلبه شعاعاً فهيهات أن يتماسك، وإذا عاد إليه صوابه ـ بعد لأي ـ فإن ما فاته من خير قلما يعود إليه...
ولذلك يقول الله عزَّ وجل:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45}. هذا الثبات أولاً هو بذرة النصر آخراً...
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) وفي أدب العرب ما ينوء بقيمة هذا الإحساس الأول، وقيمة ما يترتب عليه من سيرة تحمد أو تعاب، قال الشاعر:
ولما رأيت الشيب لاح بعارض=ومفرق رأسي قلت للشيب مرحبا
ولو خفت أني إن كففت تحييت=تنكب عني ـ رمت أن يتنكبا
ولكن إذا ما حل كره فسامحت=به النفس يوماً كان للكره أذهبا
وضبط النفس حتى لا تطيش بإزاء حادثة ما ليس بالأمر الهيِّن، إنه يحتاج الفكر السديد والعزم الحديد.
إننا نمقت الآلام ونمجَّ مذاقها المرير، ولكن شاء الله أن يجعل من أكثر الآلام نفعاً خالصاً، ومن أكثر اللذائذ ضراً محضاً.
ولا يزال الأطباء يصفون الأدوية المريرة لكفاح الأمراض وحسم أذاها ولا تزال المصائب في حياة الأفراد والأمم مصدر دروس بالغة الأثر في التربية والتعليم.
والرجال الكبار كثيراً ما تظل مواهبهم مطوية في أستار العزلة البعيدة، حتى تقع حادثة كبيرة فيكون موقفهم منها بداية تكشفهم للناس كما يتكشف البدر بعد انقشاع الغيوم.
وأبو بكر الصديق لم يكن رجلاً مغموراً فأظهرته واقعة من الوقائع، وإنما كان رجلاً معروفاً بمسحة معينة من الجمال أو لون بارز من العظمة، فلما جاءت أحداث الردة تألقت في جبين الرجل الكبير رضي الله عنه أشعة شتى من فضائل الثبات والإقدام والجرأة، تساوقت مع ما عرف عنه قبلاً من فضائل الأناة والحلم والوقار، فزادته فضلاً على فضل...
وفي هذه الكلمة نحاول متواضعين تصوير شيء من عمل الإيمان الكبير تجاه الحوادث الكبيرة...
لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يصعد إلى الرفيق الأعلى حتى انتقض حبل العرب فارتدوا عن الإسلام، وظنوا أن رمال الجزيرة ستعود كرة أخرى مسرحاً لمآسي الجاهلية الأولى ومخازيها، وشعر السابقون الأولون بخطورة الأمر، ورأوا أنفسهم في دار الهجرة مهددين بعصابات الأعراب الثائرين وجيوش مانعي الزكاة، والشقة بعيدة بينهم وبين جيش أسامة الذي سار قدماً إلى مشارف الشام تنفيذاً لوصاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس للدين الكريم بعد حصنته المكين في المدينة المنورة إلا مكة المكرمة والطائف، فقد ثبت هذان البلدان، رغم أن قريشاً وثقيفاً كانتا آخر من استمسك بعروة الإسلام. على أن شيئاً من ذلك لا يغني فتيلاً عن أهل المدينة، فقد تجمع المرتدون من قبائل عبس وذبيان وأسد وكنانة، وكلما آذنت الشمس بالمغيب اقتربت جموعهم من مداخل البلد المهدد بنية اقتحامه على أهله ليلاً، والقضاء على الإسلام بعد ذلك.
فلما أحس الصديق رضي الله عنه منهم الغدر، جمع حوله بقايا المسلمين، ولم يكن الأمر بحاجة إلى استثارة أو تهييج، فقد ضمتهم جميعاً جدران المسجد النبوي، واستمعوا إلى سيدنا أبي بكر رضي الله عنه يشرح خطة الدفاع ويرسم لكل منهم واجبه الذي يقوم به أو يموت دونه، ووزع أفراد هذا الجيش الصغير على ثغرات المدينة ومظان هجوم العدو، وجعل المسجد مستودعاً يخرج منه المدد إلى الجهة التي يشتد فيها ضغطه ويخشى تسربه منها!! وأقبل الليل، وثبت المسلمون في أماكنهم يتربصون، وما هي إلا ساعات حتى نشب القتال! لقد تحركت جيوش الأعراب، وها هي ذي سهام المسلمين تخترق عماية الليل، وأبو بكر الصديق فوق ناقته يصول ويجول، وصراخ التكبير تتجاوب الوهاد الموحشة! وخرج المعسكرون من المسجد يشدون أزر المدافعين، وتتابعت أدوار الصراع طوال الليل بين الإيمان والكفران، فما طلعت الشمس حتى تنزل نصر الله على جنده، ونجت المدينة المنورة وفر المرتدون.
كان لهذا الفوز معناه، فقد تعلم المرتدون أن المدينة المنورة غاية في المنعة بما فيها من جند كثيفّ وما هم إلا النفر القلائل ربا إيمانهم فساوت فعالهم جيشاً جراراً، وكان أبو بكر رضي الله عنه يعرف كيف يستغل القوى التي توشك أن تختفي في الأيام التي تترادف فيها المفاجآت العصيبة، وحقاً... لقد اختلت الصفوف، وأقبلت الفتن تريد أن تجعل بين كل مؤمن ومؤمن حجاباً يفصل بينهما لتفترس كلاً منهما على حدة! ولكن أبا بكر رضي الله عنه كان أسرع منهما إلى العمل، فقد ارتفع بإيمانه كما يرتفع العلم في المعركة المضطربة ليثوب إليه الأنصار، ويحتشد من حوله المخلصون، ويكون من هؤلاء وأولئك مأمن للمروعين، ومستقر للشاردين، وكسب أبو بكر رضي الله عنه المعركة الأولى في إنقاذ المدينة. وما هي إلا أيام حتى قفل جيش أسامة منصوراً غانماً فاستراح أبطاله إلى حين.
وبدأ الكفاح الحقيقي، فقد انفتح أحد عشر باباً للفتنة في آن واحد، والجرح بموت الرسول صلى الله عليه وسلم لم يندمل بعد، وأطراف الجزيرة تموج بصفوف من الضلال تحاول الاندفاع إلى قلب الإسلام فتقضي عليه بعد أن تحللت منه! وهنا يحشد أبو بكر رضي الله عنه كل من حوله، ويقذف بهم إلى المعركة الفاصلة، فيعقد أحد عشر لواءً لأحد عشر قائداً، ويفتح إحدى عشرة جبهة مرة واحدة، و يراقب القتال في هذه الميادين بعضة عشر شهراً، وتمر الأيام وهذه الجيوش في جهاد شاق، لا تنتهي من قتال إلا لتستأنف غيره حتى جاء أخيراً نصر الله والفتح، وهزم الله المرتدين شر هزيمة.
يقولون: مهما يكن الطريق إلى الغاية المنشودة طويلاً، فإن المهم هو الخطوة الأولى فيه، وهذا حق، بيد أن الخطوة الأولى لا تلدها إلا عزيمة كاملة وعاطفة ناضجة.
إن الحوافز العظيمة وحدها هي التي تدفع إلى المخاطر وتجرئ على اقتحام الصعاب.
والأمور لا تكون جسيمة أو هزيلة في نفسها قدر ما تكون كذلك في عين امرئ هيَّاب أو مقدام، على حد قول المتنبي:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى=وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمناً
وعندما توالت أنباء الردة على المدينة المنورة نهد لها الصديق الجلد، وكأنه غضوب استفزه سفهاء فما يفكر إلا في قمع العدوان الذي أصابه.
مع أن هول الأخبار الواردة جعل الجبارين يتريثون في مقابلتها، ويفكرون في حيلة للخلاص منها.
أما أبو بكر فقد أجمع أمره وتوكل على ربه وقرر العمل.
ثم رئي في عدة الكفاح يقود الجيوش المعبأة للجهاد، وكان الظن به أن يبدوَ رجل سياسة ورياسة فحسب.
وروي أنه عرضت شبهة لعمر دعته أن يطلب مسالمة العرب الناكلين عن أداء الزكاة، ظاناً أن تألفهم بما في قلوبهم من إيمان معلول سينتهي بهم إلى دفع الزكاة التي منعوها.
فعن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر رضي الله عنهم: ( علام تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). فقال أبو بكر: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لأقاتلنهم على منعه، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة... قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وكما اجتاحت صلابة أبي بكر تردد عمر رضي الله عنهما، أخذت تغمر سائر الصحابة من مهاجرين وأنصار وأعراب.
روى ابن عساكر أن أبا بكر رضي الله عنه خطب الناس يحضهم على جهاد المرتدين ومانعي الزكاة فقال: الحمد لله الذي هدى فكفى وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً والعلم شريد والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خير الخير عندهم، ولا يصرف عنهم شر الشر عندهم، قد غيَّروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه.
والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه فأجهدهم عيشاً وأضلهم ديناً...
فختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم.
حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم:[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] {آل عمران:144}.
إن من حولكم من الأعراب منعوا شاتهم وبعيرهم. ولم يكونوا في دينهم أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا.
على ما تقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده.
ويقتل من يقتل منا شهيداً في أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له:[وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا] {النور:55}.
إن هذا الشعور الفائر الظافر قاد المعركة أولاً وربحها آخراً.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة الثانية عشرة، جمادى الأولى 1374 العدد الخامس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين