صفحات من حياة سيدنا الصديق رضي الله عنه

هو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي ، كان يقال له عتيق لطيب أصله ، ولحسن وجهه ، و طهارة نسبه رضي الله عنه .

لقد حفلت حياة سيدنا الصديق رضي الله عنه بأروع مشاهد الحبِّ وأجلِّ مواقف العدل، وأسمى معاني الثبات على الحق ، وأبلغ صور التضحية والفداء، وأصفى أهوال المراقبة لله ، وأوثق عرى الصلة الصادقة بالله عزَّ وجل.

ففي صفحة حُبِّه رضي الله عنه نذكر فيض عينيه بالدموع يوم بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّه صاحبه في هجرته... فقالت عائشة رضي الله عنه لما رأت تلك الدموع : فوالله ما شعرتُ قط قبل ذلك أنَّ أحداً يبكي من الفرح  حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.

ونذكر يوم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور ، كيف كان الصديق يمشي ساعة بين يديه ، وساعةً خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر ، مالك تمشي ساعة خلفي ، وساعةً بين يدي؟ فقال رضي الله عنه بلسان الحبِّ الصادق الدافق في أعماقه لله ورسوله : (يا رسول الله ، أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بن يديك)

هكذا شأن المخلصين في حُبِّهم يلهمهم ذلك الحبُّ غاية الاشفاق على المحبوب ومنتهى الحرص على سلامته والحذر من أن يتطرق إليه شيء يؤذيه مهما كان إيذاؤه يسيراً.

وفي داخل الغار فاضت كوامن الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أبى الصدِّيق أن يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل قبله إلى الغار ، فقال : مكانك يا رسول الله ، حتى  أستبرئ لك الغار ، فدخل فاستبرأه ، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ ، فدخل فاستبرأ ، ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل.

إن المحب الصادق يفدي محبوبه بنفسه ، ويصدُّ عنه الأذى ، بكلّ ما يملك حتى النفس والروح ، وهذا ما كتبه الصدِّيق في صفحة حبِّه.

وحسبنا منه لحظة الوداع الأخير ، وهو يحنو على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها ، فقبله ، قائلاً بدمعة أسى تنساب من مقلته : بأبي أنت وأمي لقد طبت حياً وطبت ميتاً.

وفي صفحة عدله رضي الله عنه نقرأ هذا المشهد الرائع الذي أعلن فيه مدى حرصه على تطبيق العدل وإنصاف الناس حتى من نفسه.

قام أبو بكر الصديق يوم الجمعة ، فقال : إذا كان بالغداة ، فأحضروا صدقات الإبل نقسم ، ولا يدخل أحدٌ علينا إلا بإذن.

فقالت امرأة لزوجها : خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً.

فأتى الرجل ، فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل ، فدخل معهما ، فالتفت أبو بكر ، فقال : ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام ، فضربه فلما فرغ أبو بكر من قسْم الإبل ، دعا بالرجل ، فأعطاه الخطام ، وقال : استقد ، فقال له عمر : والله ، لا يستقيد ، لا تجعلها سنة ، قال أبو بكر : فمن لي يوم القيامة؟ فقال عمر : أرضه.

فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورَحْلها ، وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها ـ حياة الصحابة 2/98 ـ .

وذات يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم جالسين في فناء البيت ، إذ أقبل أبو بكر ، فقال صلى الله عليه وسلم : (من سره أن ينظر إلى عتيق من النار ، فلينظر إلى أبي بكر ).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بشي سابق أبو بكر رضي الله عنه إلى تصديقهوالإيمان به ، لأنه لا ينطق عن الهوى فلقِّب بالصديق.

 

واشتهر بذلك بعد حادثة الإسراء والمعراج ، حيث جاء المشركون إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك ، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ فقال رضي الله عنه : أوقال ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : لقد صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك ، بخبر السماء في غدوة أو رَوْحة ، فسمي بذلك صديقاً.

وحسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنفرج شفتاه الكريمتان عن شيء ، حتى يقول أبو بكر : صدق .

فمن شاء فليبحث ولينظر وليتحرَّ...أما أبو بكر فقد أصبح شعاره : إن كان قال فقد صدق .

ولقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بين الناس ، عندما صعد جبل أُحد مع أبي بكر وعمر وعثمان ، فرجَفَ بهم الجبل ، فقال صلى الله عليه وسلم : (اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).

صحب سيدنا أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم من حين أسلم إلى أن لحق النبي صلى الله عليه وسلم بربه.

وسماه القرآن صاحباً : [ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ...] {التوبة:40} .

قال العلماء : من أنكر صحبته رضي الله عنه فقد كفر ، لأن القرآن نطق بأنه صاحبه ، وسماه النبي صاحباً : فقال : (أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار) رضي الله عنه وأرضاه .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

في 27/رجب/1428

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين