صفة سكنه صلى الله عليه وسلم وسكن أزواجه

لو شَاءَ أن يَلتمِسَ حُجّةً لسَعةِ الدارِ وكثرةِ الغُرفاتِ، ووَفرةِ المرافقِ، لوجَدَ من الأعذارِ ما يُبرّرُ ذلكَ: مِن كثرةِ الضيفِ، وقُدوم الوفدِ، ومُلتقَى الصحبِ، ومجلِسِ القيادةِ، ومُحتَفَى الرحمِ والقَرابةِ.

كانت مساحة المسجد النبويّ الذي بناه النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعين ذراعاً في ستّين ذراعاً، وجعلت سواريه من الخشب، وجعل في وسطه رحبة.

ولمّا تمّ بناء المسجد النبويّ الشريف قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ببناء بيتين لزوجتيه، وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقتئذٍ زوجتان: السيّدة عائشة، والسيّدة سودة بنت زمعة، وكانت السيّدة سودة بنت زمعة القرشيّة أوّل من تزوّج بها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر، حتّى دخل بعائشة.

وذكر الواقديّ عن ابن أخي الزهريّ عن أبيه قال: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسودة رضي الله عنها في رمضان سنة عشر من النبوّة، وهاجر بها وماتت بالمدينة سنة أربع وخمسين، وأمّا السيّدة عائشة رضي الله عنها، فقد تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكّة قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً، وهاجر بها أبواها، ثمّ دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوّال سنة اثنتين منصرفه عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر، وهي ابنة تسع.

فبنى لهما بيتين على غرار المسجد، وعلى نعته من لبن وجريد النخل، مستورين بمسوح الشعر، وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراع واحد من عرعر أو ساج، وهما نوعان من الخشب، ثمّ صار له بابان، فإنّهم لمّا صلّوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم دخلوا من باب أرسالاً أرسالاً، فصلّوا عليه، ثمّ خرجوا من الباب الآخر.

والبيت في عرفهم يطلق على الغرفة في عرفنا، فلم يكن البيت النبويّ قصراً من القصور الفارهة، أو بيتاً من البيوت الواسعة، ذات الغرف الكثيرة، والساحات المتعدّدة، والمداخل المختلفة، والحدائق الغنّاء، والزخارف والنقوش، وإنما كان بيتاً مفصّلاً على قدر الضرورة، وربّما ينقص عنها ولا يزيد.!

وأمّا فرش بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان عجباً من العجب.. يصوّر حاله أحسن تصوير ما قالهُ عن نفسه صلوات الله وسلامه عليه، كما روى عَنْه عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً فَقَالَ: (مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا.! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) [رواه الترمذيّ في كتاب الزهد برقم /2299/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

كان فرش بيته صلى الله عليه وسلم سريراً من جريد النخل فيه سعفه، وكانَ صلى الله عليه وسلم يضطجع عليه، وإذا اعتكف في مسجده جلس عليه كذلك.

وتقول السيّدة عائشة رضي الله عنها في ذكر السرير: " ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بالليل، وأنا على السرير بينه وبين القبلة، فتكون لي الحاجة فأنسلّ من قبل رجل السرير، كراهية أن استقبله بوجهي.

ولم يكن هذا السرير مريحاً في النوم، فقد دخل عمر رضي الله عنه مرّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أثر الشريط بجنب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبكى عمر رضي الله عنه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر.؟ قال: يا رسُول الله ! ذكرتُ كسرى وقيصرَ يجلسونَ على سرر الذهب، ويلبَسون السندس والإستبرَق.!

فقال: أما ترضون أن تكون لكم الآخرة، ولهم الدنيا.؟!

قال: وفي البيتِ أُهبٌ [جمع إهاب وهو الجلد] لها ريح، فقالَ: لو أمرت بهذه فأخرجت.

فقال: لا، متاع الحيّ " يعني الأهلَ.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة مدبوغة يصلّي عليها..

وكان من جملة فرش البيت أيضاً حصيرة تقول عنها السيّدة عائشة رضي الله عنها: كانت لنا حصيرة نبسطها بالنهار، ونتحجّرها بالليل.

وكان في فرش بيت النبيّ بساط يضطجع عليه، تصِفه السيّدة عائشة رضي الله عنها فتقول: كان ضِجاعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف، كما كانت وسادته كذلك، وكان يدفعها للزائر ليتّكئ عليها، كما في قصّة إسلام عديّ بن حاتم رضي الله عنه.

ثمّ كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّمَا أحدث زوجة بَنى لها حجرة وأسكنها فيها حتّى صار له تِسع زوجات، وتسع حجرات، وتمتدّ هذه الحجرات ما بين بيت السيّدة عائشة رضي الله عنها وإلى جهة اليسار، وكانت أبوابها شارعة في المسجد.

ويصف لنا عمران بن أبي أنس رضي الله عنه الحجرات الشريفةَ فيقول: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حُجَرٌ من جريد، وكانت خمسة أبيَات من جريد مُطيّنة لا حُجَرَ لها، وعلى أبوابها مسوح الشعر، وذرعتُ الستر، فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع.

ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بوّاب على باب حجراته أو حاجب يمنع الناس من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث إليه، كما في قصّة المرأة المصابة التي رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: (اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي) قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى) [رواه البخاريّ في كتاب الجنائز باب زيارة القبور برقم /1223/].

وكان عدد مِن الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون عن حبّ ورغبة في خدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ساعات الليل والنهار، وينتظرون إشارته وتوجيهه.

وأمّا مساحة الحجرات الشريفة، فقد جاء عن داود بن قيس قال: " رأيت الحجرات من جريد النخل مغشّى من خارج بمسوح الشعر، وأظنّ عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ستّة أذرع أو سبعة، وأحزر البيت الداخل عشرة أذرع، وأظنّ سمكه بين الثمان والسبع.

ويصفها لنا الحسن البصريّ رضي الله عنه وهو الذي تربّى في حجر السيّدة أم سلمة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: " كنت أدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام مراهق، وأنال السقف بيدي، وكان لكلّ بيت حجرة، وكانت حجره من أكسية من خشب عرعر ".

وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الحجرات تنّور مشترك بينه وبين بعض الأنصار، للخبز وما في معناه.

قال عطاء الخراسانيّ: أدركت حجرات أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ، يأمرنا بهدم حجر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.

قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيّب رضي الله عنه يقول: " والله لوددت أنّهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ من المدينة، ويقدم قادم من الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ويكون ذلك ممّا يزهّد الناس في التكاثر والتفاخر بها.

وقال عمران بن أبي أنس، لمّا سمع كلام عطاء: فلقد رأيتني في المسْجد، وفيه نَفر منْ أبناء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبو سلمة بن عبْد الرحمن، وأبو أمامةَ بن سهل، وخَارجة بن زيد، وإنّهم لَيبكون، حتّى أخضلَ لحَاهم الدمعُ.

وقالَ يومئذٍ أبو أمامة: ليتها تُركت حتّى ينقصَ الناس منَ البنْيان، ويروا ما رضي الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيْح خَزائن الدنيا بيده.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين