صدق العزيمة

الحمدُ للهِ، أمدَّ بتوفيقِه ومعونتِه منْ أخلصَ في عملِه، وصدقَ في عزيمتِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، المثلِ الكاملِ لأمتِه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ، الذينَ نهجوا نهجَه، واقتفوا أثرَه، فقادوا قافلةَ الإصلاحِ في طريقِ الخيرِ والفلاحِ.

وبعدُ أيُّها المسلمونَ !

اتقُوا اللهَ واعلموا أنَّنا في حياتِنا الخاصةِ والعامةِ، تعرضُ لنا كلَّ يومٍ أمورٌ، يفكرُ المرءُ فيها، بما أوتيَ منْ رجاحةِ عقلٍ، وسلامةِ تفكيرٍ، وحسنِ تدبيرٍ، ويقلبُ الرأيَ على سائرِ وجوهِه، ليستلهمَ سبلَ التوفيقِ، فإذا ما اقتنعَ برجحانِ رأيٍ، عزمَ عزماً قوياً على التنفيذِ، عملاً بما استبانَ أنَّه الحقُ، وتمشياً وراءَ هدفِه الذي يرمي إليهِ.

وليسَ مجردُ العزمِ كافياً لإبرازِ الأمرِ إلى حيزِ الوجودِ، وإنَّما يبرزُه العملُ وصدقُ العزيمةِ، ولا يتوفرُ صدقُ العزيمةِ لكلِّ عالمٍ أو مفكرٍ، أو خبيرٍ أو باحثٍ، حتى يتحلى بإرادةٍ قويةٍ تذللُ المصاعبَ، وتفكيرٍ عميقٍ يكشفُ آفاقَ العواقبِ، وتوكلٍ على اللهِ يقوي منْ مضارِ العزيمةِ، وإنَّما تتربى الإرادةُ القويةُ منْ التجاربِ التي تكسبُ المرءَ مرانةً وخبرةً، ومنْ دروسِ التاريخِ وسيرِ العظماءِ، التي تملي عليهِ عظةً وعبرةً، فإذا اكتملَت هذهِ المزايا في إنسانٍ وجهتْه إلى معالي الأمورِ، ويدمْ على العملِ استجابةً لصيحاتِ الإصلاحِ التي تدوي في أذنِه، وتصلُ إلى أعماقِ قلبِه، فتتحركُ لها مشاعرُه وجوارحُه، تنفيذاً لما أمْلَتْه عليهِ عزيمتُه الصادقةُ، لا يعرفُ هوادةً في تحقيقِ غرضِه، ولا تردداً في قصدِ السبيلِ ؛ لأنَّ الترددَ مضيعةٌ للوقتِ، ومفسدةٌ للرأيِ، ومفوتٌ للفرصةِ، ينافي الدينَ، ويجافي أخلاقَ المؤمنينَ، ولنا في سلفِنا الصالحِ المثلُ الأعلى في علوِّ الهمةِ وصدقِ العزيمةِ:

استشارَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه عندَ المسيرِ لغزوةِ بدرٍ، والمسلمونَ يومئذٍ قلةٌ، والمشركونَ كثرةٌ، فكانَ جوابُ الأنصارِ: (امضِ لما أمرَك اللهُ، فوالذي بعثََك بالحقِّ، لو استعرضْتَ بنا هذا البحرَ فخضْتَه، لنخوضنَّه معَك، وما نكرُه أنْ تلقى بنا العدوَّ غداً، إنَّا لصبرٌ عندَ الحربِ، صدقٌ عندَ اللقاءِ). فسارَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وكانَ النصرُ حليفَ المسلمينَ. انظر السيرة النبوية لابن كثير 2/392.

ولما توفيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكرٍ رضي الله عنه الخلافةَ ارتدَّ عنْ الإسلامِ منْ ارتدَّ، وادعى النبوةَ منْ ادعى، ومنعَ الزكاةَ منْ منعَ، فجردَ عليهِم أبو بكرٍ رضي الله عنه جيوشَ الحقِّ، وقضى على الفتنةِ في مهدِها.

هذهِ بعضُ مظاهرِ صدقِ العزيمةِ، تجلَّت في هذهِ المواقفِ الرائعةِ، وهيَ نفحةٌ منْ وحيِ القرآنِ المبينِ، الذي دعا إلى صدقِ العزيمةِ فقالَ: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[آل عمران:159]

وقالَ {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم}[محمد:21]

أيُّها المسلمون:

ما أحوجَكم اليومَ إلى عمقِ تفكيرٍ وصدقِ عزيمةٍ، هؤلاءِ إخوانُكم المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ مضطهدونَ في ديارِهم، معذبونَ في أعماقِ السجونِ، يكيدُ لهم الأجنبيُّ مباشرةً في المغربِ، وبأيدي المسلمينَ أنفسَهم، كما في مصرَ وإيرانَ....

أطماعٌ أجنبيةٌ وخططٌ كافرةٌ، ومكائدُ مدبرةٌ، تريدُ أنْ تقضيَ على الإسلامِ والمسلمينَ... وإذا بدأَت بهِم فستنتهي بكمْ، لا تحسبوا أنَّ هذا العدوانَ على طائفةٍ بعينِها، ما هوَ إلا الكيدُ للإسلامِ والمسلمينَ.

تجلَّت في إيرانَ مكائدُ الاستعمارِ، وأنتم نائمونَ، وفي المغربِ وحشيةُ الفرنسيينِ، وأنتم غافلونَ، وفي مصرَ فرعونيةُ الحكامِ، وأنتُم ساكتونَ، وفي كلِّ بلدٍ إسلاميٍّ عددٌ داخليٌّ جاثمٌ للإسلامِ والمسلمينَ، يتربصُ بهم الدوائرَ، وعدوٌّ خارجيٌّ، يبذلُ المالَ والسلاحَ لأيديهِ الآثمةِ في البلاءِ، وكأنِّي بكم قدْ صبَّحَكم السوءُ أو مساكم، فإلى متى أنتم نائمونَ؟ استيقظوا منْ سباتِكم، ولموا شعثَكم، وشكلوا نواةً إسلاميةً صادقةً، تبحثُ في شؤونِ المسلمينَ، هيئوا القادةَ الصالحةَ، وكونوا جندَها الطائعينَ.

وعلى قدرِ نصيبِ القادةِ منْ صدقِ العزيمةِ يكونُ حظُّ الأمةِ منْ التقدمِ والارتقاءِ، وليسَ يجدي الأممَ والشعوبَ في الإصلاحِ رسمُ الخططِ ووضعُ المناهجِ، وسنُّ القوانينِ فحسبٌ حتى يكونَ لذلكَ سيدٌ منْ صدقِ العزيمةِ، ومظهرٌ منْ الجدِّ في التنفيذِ وهذا ما بدَت بوادرُه اليومَ إنْ شاءَ اللهُ تعالى، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) رواه مسلم في كتاب القدر 4816، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فراقبوا اللهَ أيُّها المسلمون ‍‍! وتدبروا قولَ ربِّكم عزَّ وجلَّ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}[التوبة:105]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين