شيخ المجاهدين (عبد القادر منصور الحجار) (6)

الامتحان الصعب !!

أمضى المجاهدون ضد المحتل الفرنسي سنين عددا، كر وفر، وانتصارت لا تُعد، ويأبي الزعيم أن تُعد وتُحكى، فبينا المجاهدون يغيرون فينتصرون يغنمون، ثم يرجعون سالمين إلى قواعدهم في المهجر، إذ وقع حدث لم يكن في الحسبان، كاد أن يزلزل أركان الثوار، وكان امتحانا صعبا.

وخلاصة الأمر: خرج جنرال تركي بمن معه من الجنود على الحكومة، واعتصموا بمنطقة جبلية، فأقض مضجعها وأقلقها، وتعزم أن تقضي عليه، وتعيد الأمان إلى المنطقة! فقررت الحكومة التركية أن تستفيد من لجوء الثوار في بلدها فدعت(فاتح مرعشي) لتُلقي بين يديه أمرا لازم التنفيذ بحق الثوار، وإلا؛ فليغادروا تركية!

فاتح: فما المطلوب؟

الحكومة: "على الثوار المقيمين على أرضنا، أن يكونوا متعاونين معنا، وإلا سيطردون" !!.

فاتح: وكيف؟

الحكومة: أن تجمع الثوار ، وتكلفهم بالقضاء عليه، ثمنا لبقائهم بيننا.

فاتح: سأفعل.

وعلى التوَ، دعاهم لاجتماع طارئ، فلبوا جميعا، وقرأ عليهم نص قرار الحكومة التركية، فوافقوا، مكره أخاك لا بطل، وترأس الثوار شيخ المجاهدين، وزحفوا صوب الهدف، ودرات معركة ملحمية، تكللت بنصر مؤزر للمجاهدين، وتمكن القائد من قتل هذا المتمرد، فحز رأسه ليريه الحكومة، فكافأته بكروم ثلاثة، في محيط مدينة (نزب)، ومنحته وزملاءه الأمان والاستقرار.

وتقول جدتي التركية: إنه مر بمدينة عينتاب،-وأهلها من محبيه - وهو حامل رأس الجنرال، ليريه الناس، حتى يطمئنوا، وكانت من جملة المشاهدين، وعمرها -يومئذ-(13)سنة. وبعد فترة خطبها، فتزوجها، وأنجبت منه جميع أولاده.

الانتداب الفرنسي على سورية:

وهو حالة تشكل نظام المحتل في سورية، بعدما هزمت قوات المملكة السورية ، في معركة ميسلون في 24 تموز عام 1920، وحتى تمام جلاء المحتل الفرنسي عن كامل تراب سورية يوم 17 نيسان عام 1946.

وُضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب، عملًا بمقررات مؤتمر(سان ريمو) والذي عُقد في( 19-26 إبريل عام 1920)مـ في إيطاليا، وأقر بفصل البلاد العربية، عن الحكم العثماني، وإعطاء الشريعة لفرنسا باحتلال سورية.

وكان الحاكم بالنيابة يحمل اسم” المندوب السامي الفرنسي” في كل من سوريا ولبنان، وهو صاحب السلطة التامة، في كل المجالات الإدارية والسياسية والمالية ومراجعة وزارة الخارجية الفرنسية. ومر الانتداب بمراحل تاريخية عدة:

1- تقسيم البلاد إلى دول، عام( 1920) وإخضاعها لحكم الانتداب المباشر.

2-ثم الوحدة بين دمشق وحلب في الدولة السورية عام( 1925).

3-ثم تمخّض الثورة السورية عن انتخابات الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور عام(1930) فأعلنت بموجبه الجمهورية السورية الأولى.ولعب تاج الدين الحسني(1885-1943) دورا بارزا، فشارك في وضع أول دستور جمهوري للبلاد عام( 1928). ولُقب بالرئيس المعِمار؛ لشدة اهتمامه بالتطوير والبناء، وفي عهده الأخير حصلت سورية على استقلالها من حكم الانتداب الفرنسي.

عام(1936)مـ

مرت سنون وشيخ المجاهدين يقض مضجع المحتل الفرنسي، غارة هناك وأخرى هنا، وكمين هنالك، وآخر ثم، يدوخ المحتل الغاشم، ويقلقه ليل نهار، وصار مطلوبا -حيا وميتا-، لكن عناية الله تكلؤه، وترعاه، ودعم العلماء والشعب يحفه من كل جانب، لا يهاب الموت لأنه يطلبه، يصول ويجول غير هياب للعواقب.

وتقول جدتي الحلبية: طيلة وجودي معه، لا أعرف قرارا ولا استقرارا، وما بين الفينة والأخرى، أنظر في مخلاته، فأجد آذانا لجند الفرنسيين ورؤوسهم، وكأنه مطلوب برهانا منه على هجماته، أو رهائن لتبادل أسرى، حين الطلب، وهو دائم التوجس من استهدافه، من قبل العدو. وتحكي أنها تكون معه أحيانا، وفجأة يتركها ويغيب، إما لتحسسه من مداهمة لمقره، أو خبر عاجل يطلبه.

حتى عام(1936)مـ تم توقيع اتفاقيّة قضت باستقلال سورية عن الحكم خلال فترة انتقاليّة أقصاها(3)سنوات. فأصدرت فرنسا العفو عن الزعيم فاتح المرعشي وشيخ المجاهدين، فعادا إلى سورية.

وقد فرح الناس بعودتهما قدر فرحهم بالاستقلال، غير أن المنية عاجلت شيخ المجاهدين، قبل فاتح المرعشي، وذلك في عام(1941)، بينما الأخير، مد له في الحياة، فتوفي بعده ب(13)سنة، في حلب يوم(3)تموز1954مـ وصلّي عليه في جامع العثمانيّة ويقال: إنّ معظم حلب شيّعته إلى مثواه الأخير في مقبرة الصالحين.

العودة إلى الوطن:

ولما غادر الوطن مكرها، ذكرني بقول النبي محمد e "اللهم إنك أحب البلاد إلى الله، وأنت أحب البلاد إليَّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني ما خرجت منك"- وحين سمح له بالرجوع، لم يلبث أن غادر المهجر، حتى هبط بلده حلب، ولا بيت يسكنه فيه، فضاف عند أقاربه، ريثما يبني مسكنا يؤويه، فبنى سكنا متواضعا، ولأن الاستقلال لم يكن كاملا، فاستمر بالمقاومة السرية، يستورد السلاح للثوار، وفجأة تعترض السلطات قافلة السلاح، وتصادرها، فأصيب بنكسة صحية، أدت إلى قضاء نحبه.

والحاضنة للوطن -يومئذ- العلماء والأدباء، وجلاء المحتل لم يحن بعد، فثمة حكومة عربية في حضن الانتداب، أعلن عن الاستقلال لكنه ناقص، ومما هو جدير بالذكر: أنه قد حفر في منزله مغارة كلفته 7 ليرات ذهبية، وقد جعلها منفذا آمنا للفرار إذا كبسته قوات الاحتلال، وتتألف من غرفتين صغيرتين تشرفان على قناة الماء الممتدة عبر بيوتات حلب، وكم بتُّ فيها أيام الصيف لبرودتها، وكان عمقها أربعين درجة، كل درجة تعدل درجتين من درجات اليوم، واختلف في سبب حفرها على رأيين:

الأول: أنه من قبيل التحصين والاحتياطات اللازمة حين يداهم البيت من قبل السلطات، فيهبطها وينفذ من الشرفة المطلة على القناة المائية، فلا يمكن عدوه من القبض عليه. وفعلا، فقد كبس البيت مرات، وتمكن من الانفلات من قبضة سلطات العدو.

الثاني: وهو سبب خاص، ذلك أنه ذات يوم أغارت طائرات الاحتلال على حلب، ولم يكن شيخ المجاهدين في البيت، ولا أحد يعلم سوى الله، أين كان وحيث كان، فخرجت زوجتاه مع الأولاد فزعين، إلى بيت بعض الأصحاب.

ولا يخلو المجتمع من مرضى، وحسدة، وعملاء، فأشيع بين الناس بأن زوجة شيخ المجاهدين ، خرجت من البيت، دون أن تلبس الجراب، وهذا في عرف –يومئذ- هتك لشرف العائلة، وربما ينجم عنه جريمة قتل نفس بريئة، غير أنه لقربه من العلماء، جعله منضبطا ، لم يرتكب حماقة الجاهلية، وتدبر أمره، فلم يلبث أن حفر تلك المغارة، حتى لا يستغل المغرضون أهله، لينفذوا إلى أغراضهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين