شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني

 

حدث في الثاني عشر من شعبان

 

في الثاني عشر من شعبان من سنة 724  ولد في بُلقينة، قرب المحلة الكبرى في محافظة الغربية بمصر، شيخ الإسلام سراج الدين البُلقيني، أبو حفص، عمر بن رسلان بن نصير بن صالح، الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد، قال عنه ابن خلدون: هو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر.

 

ولد البلقيني في بُلقينة، والتي جاءها جده صالح من عسقلان في فلسطين، وحفظ القرآن الكريم وهو في السابعة، واتجه لطلب العلم فحفظ كتاب المحرر في الفقه الشافعي، الذي ألفه الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني  المتوفى في حدود سنة 623، وحفظ كذلك مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، والذي ألفه الفقيه المالكي جمال الدين ابن الحاجب، عثمان بن عمر، المولود سنة 570 والمتوفى سنة 646، وحفظ الشاطبية في القراءات، وكافية ابن مالك في النحو، وبحفظه هذه الأمهات والمتون صار لديه أساس متين يبني عليه متابعته لطلب العلم.

 

وأنهى البلقيني هذه المرحلة وهو في الثانية عشرة من عمره، ولم يعد لدى بلقينة ما تفيده به، فأخذه والده إلى القاهرة وطاف بالفتى على بعض علمائها مثل القاضي جلال الدين القزويني والشيخ تقي الدين السُبكي الذين أعجبوا بحفظه وذكائه، وقفل إلى بلده، ثم عاد في قابل مع والده واستوطن القاهرة، وسكن بالمدرسة الكاملية، ولذلك قصة طريفة فقد كان في أول قدومه طلب من ناظر الوقف حجرة فيها فلم يستجب له، وصدف أن كان البلقيني في مجلس به الناظر، فقرئت قصيدة في مدح الناظر، فلما انتهت قراءتها أعاد البلقيني سؤال الناظر أن يمنحه حجرة، وقال له: قد سمعتُ هذه القصيدة من المنشد مرة فحفظتُها، وأطلب حجرة فلا أعطاها! فقال الناظر له: إن كنتَ حفظتَها أعطيتك سكناً. فسردها في الحال فأعطاه على الفور حجرة وسكن في المدرسة فترة.

 

وصار البُلقيني معيداً في درس قاضي القضاة ابن جماعة، عبد العزيز بن محمد، المولود سنة 694 والمتوفى سنة 767، وتابع دراسته في القاهرة في الحديث والفقه والأصول والنحو، وصارت له دِربة جمعت الفقه الشافعي مع شواهده من أحاديث الأحكام، فصار من الفقهاء البارزين في استحضار أحكام المذهب. وتوجه كذلك لرواية الحديث النبوي، ولكن المؤرخ  تقي الدين ابن فهد، محمد بن محمد المولود سنة 787 والمتوفى سنة 871، يشير في كتابه لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ إلى أنه لم يعتن بالسماع على أصوله كما هو متبع عند أهل العلم، وأنه كان كثير البحث في وقت السماع حتى صار هذا ديدناً له.

 

ودرس البلقيني الفقه على أبرز فقهاء الزمان، وعلى رأسهم شيخ الإسلام تقي الدين السُبكي، علي بن عبد الكافي، المولود سنة 683 والمتوفى سنة 756، ودرسه كذلك على شمس الدين ابن عدلان، محمد بن أحمد، المولود 663 والمتوفى سنة 749، ودرس على نجم الدين الأسواني، حسين بن علي، المولود سنة 646 والمتوفى سنة 739، والذي كان ماهراً في الفقه، متصوفاً كريماً جداً مع الفاقة، منقطعاً عن الناس،  شريف النفس،  معزاً للعلم اشتغل عليه الطلبة طبقة بعد طبقة وانتفعوا به.

 

ودرس البلقيني النحو والفقه على الإمام النحوي الفقيه بهاء الدين ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن، المولود سنة 694 والمتوفى سنة 769، وهو صاحب الشرح المشهور لألفية ابن مالك، وكان قوي النفس، يتيه على أرباب الدولة، ويخضعون له، ولا يتردد إلى أحد، والناس إلى بابه. وعنده حشمة بالغة، واهتمام زائد بالملبس والمأكل، وتزوج البلقيني ابنته فيما بعد في سنة 752، وتولى ابن عقيل القضاء مدة يسيرة في آخر أيامه، وجعل البلقيني أحد نوابه لا لأنه زوج ابنته بل لما لديه من الكفاءة، فقد كان يقول عنه من قبل: أحق الناس بالفتيا في زمانه.

 

ودرس البلقيني النحو والتصريف والأدب كذلك على أبي حيان النحوي، محمد بن يوسف الغرناطي، المولود بغرناطة سنة 654 والمتوفى بالقاهرة سنة 745، وكان عالماً بالنحو والتفسير واللغات، وكان سن التلميذ دون العشرين سنة، ومع ذلك كتب له أبو حيان في الإجازة: قرأ عليّ الشيخُ الفقيه العالم المفنن سراج الدين عمر البلقيني جمعَ الكافية في النحو، قراءة بحث وتفهم وتنبيه على ما أغفله الناظم، فكان يبادر إلى حل ما قرأه علي من مشكل وغيره، فصار بذلك إماما ينتفع به في هذا الفن العربي، مع ما منحه الله تعالى من علمه بالشريعة المحمدية، بحيث نال في الفقه وأصوله الرتبة العليا، وتأهل للتدريس والقضاء والفتيا على مذهب ابن ادريس رضي الله عنه.

 

ودرس البلقيني المنطق على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، محمود بن عبد الرحمن، المولود في أصبهان سنة 674 والمتوفى بالقاهرة سنة 749، وكان عالماً بالمنطق والأصول والتفسير.

 

درَّس البُلقيني في عدة مدارس جرى إنشاؤها في تلك الفترة، وإذا أردنا أن نستعير بعض مصطلحات اليوم، لقلنا إنه درس في بعضها كمعيد، ومن ذلك المدرسة الخروبية، التي أنشأها التاجر بدر الدين الخروبي، وذكر البلقيني في كتاب وقفه للمدرسة، وكان في بعضها أستاذاَ زائراَ، وكان في بعضها عميد الكلية يعود إليه أمر إدارتها ومن يدرس بها، واستمر نحواً من ثلاثين سنة يدرس في المدرسة الخشابية بزاوية الإمام الشافعي رضى الله عنه بجامع عمرو بن العاص رضى الله عنه.

 

وصار البلقيني في سنة 765 مفتياً رسمياً عندما عين في إفتاء دار العدل رفيقا للإمام بهاء الدين السبكي، أحمد بن علي المولود سنة 717 والمتوفى بمكة سنة 773، وهو ابن شيخه تقي الدين السبكي، وفي منتصف سنة 769 اتجه سراج الدين البلقيني إلى دمشق ليتولى قضاءها بدلاً من ابن شيخه الآخر تاج الدين السبكي، عبد الوهاب بن علي، المولود سنة 727، وذلك بمسعى من أحد كبار الأمراء الذي كان في دمشق، وشهد عن قرب شبهات كثيرة أثيرت حول السبكي، الذي تولى ذلك المنصب سنة 663، فأصدر الملك الأشرف شعبان، وكان عمره 15 سنة، أمره بمحاسبة السبكي وتعيين البلقيني بدلاً عنه، وعاد تاج الدين السبكي إلى القاهرة ليتعرض للمسائلة والحساب، ولما وصل البلقيني إلى دمشق مارس القضاء في المدرسة العادلية، وصلى بالناس الجمعة في الجامع الأموي، ودرَّس في دار الحديث الأشرفية فتكلم في عدة فنون بأفصح عبارة وأبلغ كلام واستفاض في ذلك دون حصر أو عي، فبهر من حضر من الفضلاء والعلماء بعلمه وبيانه، وكان ذا تأدب وتودد حببه إليهم، فلم يتناوله أحد بالنقد وأقروا له بالتقدم، ودمشق إذ ذاك غاصة بالائمة الفضلاء.

 

وما لبث البلقيني أن ترك دمشق وعاد إلى القاهرة، وذلك لأن السبكي استمال بعض كبار القوم في القاهرة فأعادوه إلى دمشق في منصب خطيب الجامع الأموي ومدرساً في بعض مدارسها، فأنف من ذلك البلقيني وعاد إلى القاهرة في أوائل سنة 770 بعد أن أمضى في هذا المنصب بضعة شهور، وأعيد تعيين السبكي في قضاء دمشق بعد أن تركه البلقيني، ولم يطل بقاء تاج الدين السبكي في قضاء دمشق فقد أدركته المنية في أواخر سنة 771، وهو في الرابعة والأربعين.

 

وتولى البُلقيني تدريس النحو والتفسير بجامع ابن طولون وغيره من مدارس القاهرة، وفي سنة 773 توفي بهاء الدين السبكي وكان يتولى قضاء العسكر فأحيلت الوظيفة إلى سراج الدين البلقيني، وبقي فيها إلى سنة 779 حين تركها لبدر الدين السبكي محمد بن محمد ابن أبي البقاء، المولود في حدود 740 والمتوفى سنة 803، وتخلى البلقيني كذلك عن قضاء العسكر لأكبر أبنائه محمد بدر الدين، المولود سنة 756، وسبب ذلك أن قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة عزل نفسه من وظيفة قضاء القضاة، واعتزل أهل الدولة، وترك حضور مجلس القضاء في ديوان السلطان، تورعا واحتياط لدينه، لِـما دهم الناسَ من تغير الأحوال، وحدوث ما لم يعهد، وتهاون القائمين بالدولة بأمور الدين، فعين كبيرُ الأمراء لقضاء القضاة سراجَ الدين البلقيني، فاعترض على ذلك بعض الأمراء، ووعد بتقديم مبلغ من المال لقاء إعطاء المنصب لابن أبي البقاء، وهي ظاهرة ذميمة كانت متفشية في زمن المماليك والدولة العثمانية، وكان ابن أبي البقاء صغيراً في السن ، غير محمود في أحواله، فشقَّ ذلك على البلقيني وترك مناصب الدولة، وتنازل عن قضاء العسكر لولده، ولم يستمر القاضي ابن أبي البقاء في منصبه سنة وأربعة أشهر حتى عزل عنه وجلس بطالاً.

 

وتفرغ سراج الدين البلقيني للتدريس والإفتاء والوعظ، فعرف الناس فضله، وعظم عند الخاصة والعامة قدره،  وانتشر في الآفاق ذكره، ودارت عليه الفتوى في مصر، بل كانت تأتيه من الأقطار البعيدة، وكان يجلس للكتابة عليها من بعد صلاة العصر إلى الغروب، وكان موفقا فيها يكتب من حفظه دون احتياج إلى مراجعة كتاب، وذلك لسعة ذاكرته وشمول اطلاعه وكثرة محفوظه، لا سيما لنصوص الشافعي رضى الله عنه، مع الذهن السليم والذكاء الذي لم يتغير مع تقدمه في السن، فلم يكن في الحفظ وقلة النسيان من يماثله بل ولا من يدانيه، ومع ذلك كله كان لا يأنف من تأخير الفتوى عنده إذا أشكل عليه منها شئ إلى أن يحقق أمرها بمراجعة الكتب.

 

تميز البلقيني في دروسه باستحضار المواضيع وسعة العلم، وكان في درس الفقه يسرد ما يناسب الموضوع من أبواب الفقه الأخرى، ويطرز ذلك بشواهد وفوائد يدرك معها سامعه أنه يستحضر فروع المذهب جميعا، وأقر له بالعلم والمشيخة علماء العصر من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين، ورحل إليه الطلبة من الآفاق للقراءة عليه، فانتفعوا به وتخرج به خلائق لا يحصون، وصار الماهرُ في العلم يتشرفُ أن ينسب نفسه إليه ويتبجح بالقراءة عليه، ومن المناسب أن نذكر أنه كان يدرس ما يشبه اليوم الطلبة الجامعيين، فقد ورد في ترجمة الشيخ العالم شرف الدين المصري، عباس بن حسين، المتوفى سنة 792: كان الطالب يقرأ عليه، فإذا تنبه، ذهب إلى حلقة الشيخ سراج الدين البلقيني.

 

ومن أبرز من درسوا على البلقيني الإمام ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، صاحب فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وكان البلقيني أول من أذن لابن حجر بالإفتاء والتدريس،  وخرج له ابن حجر 40 حديثاً عن 40 شيخاً.

 

وممن اشتهر بتلمذته للبلقيني واستفادته منه تمام الفائدة العالم الفقيه جمال الدين الطيماني، المصري ثم الدمشقي، عبد الله بن محمد، المولود قبل 770 والمتوفى بدمشق سنة 815، والذي لازم البلقيني ودرس عليه مدة جيدة،ولما استقر بدمشق كان يدرس دروساً مليحة مشحونة بفوائد شيخه البلقيني ومباحثه.

 

وزار القاهرة سنة 780 الفقيه المحدث برهان الدين سبط ابن العجمي، إبراهيم بن محمد، المولود بحلب سنة 753 والمتوفى سنة 841، والتقى بالبلقيني، وقال عنه: رأيته إماما لا يجارى، أكثرَ الناس استحضارا لكل ما يلقي من العلوم، وقد حضرت عنده عدة دروس مع جماعة من أرباب المذاهب الأربعة، فيتكلم على الحديث الواحد من بعد طلوع الشمس وربما أذَّن الظهر في الغالب وهو لم يفرغ من الكلام عليه، ويفيد فوائد جليلة لأرباب كل مذهب خصوصا المالكية، وكان بعض فضلائهم يقرأ عليه في مختصر مسلم للقرطبي، وممن كان يحضر عنده الإمام نور الدين الدميري، علي بن يوسف، المولود في حدود 730 والمتوفى سنة 803، وكان أفقه أهل القاهرة يومئذ في مذهب مالك، وكان يستفيد منه، وسواه جمع من أرباب المذاهب الأربعة، واستفدت منه فوائد جمة في التفسير والحديث والفقه والأصول، وعلقت من فوائده أشياء، وهو أجلُّ من أخذت عنه العلم، وسمعت عليه الحديث، وكان بي حفيا.

 

ودرس على سراج الدين البلقيني الحافظ بدر الدين الزَّرْكَشي، محمد بن بهادر المولود سنة 745، والمتوفى سنة 794، ولازمه فترة طويلة، ولما ولي البلقيني قضاء الشام سنة 769 استعار منه الزركشي نسخته من الروضة مجلدا بعد مجلد فعلقها على الهوامش من الفوائد، فهو أول من جمع حواشي الروضة للبلقيني، وصارت النسخة إلى الحافظ ابن حجر، ثم جمع حواشي البلقيني على الروضة تلميذٌ آخر له هو الإمام الحافظ أبو زرعة العراقي، ولي الدين أحمد ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم، المولود بالقاهرة سنة 762 والمتوفى بها سنة 826، وذلك قبل أن يطلع على نسخة الزركشي، ثم أعاره ابن حجر النسخة وانتفع بها فيما كان قد خفي من أطراف الهوامش في نسخة الشيخ.

 

ولم تكن مكانة البلقيني عند الملوك والأمراء تقل عن مكانته عند العلماء، بحيث إن الملك الظاهر برقوق لم يكن يعقد مجلسا إلا به ويقتدي برأيه وإشارته، وهو الذي أشار عليه أن يتلقب بالظاهر، لأن ولايته كانت وقت الظهر، وكان البلقيني يحضر المناسبات الرسمية لمكانته العلمية رغم أنه لم يكن له منصب في الدولة، ومن ذلك أنه في سنة 788  توفي الخليفة العباسي الواثق بالله، عمر بن إبراهيم، فدعا السلطان برقوق أخاه زكريا لينصبه خليفة، فطلع إلى القصر من قلعة الجبل، وحضر أعيان الأمراء وقضاة القضاة الأربع، وشيِخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فبدأ شيخ الإسلام بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريا على الخلافة، فبايعه السلطان أولا، ثم بايعه من حضر على مراتبهم، ونعت نفسه بالمعتصم بالله أبي يحيى، ثم أشهد عليه الخليفة أنه قلد السلطان أمور العباد والبلاد وأقامه في ذلك مقام نفسه، فخلع عليه خلعة الخلافة، وخلع على عامة من حضر، وركب القضاة بين يدي الخليفة إلى منزله.

 

ولم تكن هذه مناسبة خاصة، فقد تكرر وجود البلقيني بعد وفاة السلطان برقوق في مناسبة بلوغ ابنه والملك من بعده سن الرشد، ذلك إن برقوق توفي سنة 801 وأوصى بالملك من بعده لابنه فرج، وعمره 10 سنين، فأدعى الملك في سنة 802 أنه قد بلغ وذلك بتوجيه من بعض الأمراء ليرفعوا يد الأوصياء، فعقد الأمير الكبير مجلساً ضم الخليفة والقضاة والمفتين، وضم كذلك البلقيني بصفته شيخ الإسلام، وتم في هذا المجلس إثبات رشد الملك الناصر فرج.

 

وكان البُلقيني يستفيد من مكانته لدى الملوك في التخفيف من الأعباء التي يطرحونها على العامة، وإلغاء الضرائب والمكوس التي ما أنزل الله بها من سلطان، وفي سنة 775 سعى لدى الملك الأشرف أن يبطل ضريبتين هما ضمان المغاني ومُكس القراريط، وتم ذلك بطريقة تدل على حسن تأتي البلقيني فيما يريده من أمر بمعروف أو نهي عن المنكر، فقد مرض الملك الأشرف فعاده البلقيني وأشار عليه بذلك على نية الشفاء، فأسقطهما وعافاه الله، وضمان المغاني هو ضريبة عن إقامة الأفراح، ما كان أحد يقدر يعمل عرساً حتى يغرم قدر عشرين إلى ثلاثين مثقالاً ذهباً، ولا تغيب مغنية بمصر والقاهرة عن بيتها ولو إلى زيارة أهلها إلا أخذ الضامن منها رشوة! ومكس القراريط هو ضريبة تؤخذ من كل باع داراً، ولو تكرر بيعها في الشهر الواحد مراراً، ولا يستطيع أحد من الشهود أن يكتب خطه في مكتوب دار حتى يرى ختم السداد في المكتوب. وإبطال هذه الضرائب وما يصاحبها من رشاوى أمر لا يحبه كثير من الحاشية والموظفين الذين نما جسدهم من هذا السحت وغيره، ولذا عاود هؤلاء الكرة بعد 3 سنوات وتكلموا في إعادة هذه الضرائب، فعلم بذلك المشايخ وذهب البلقيني وراجع السلطان في ذلك، فأصدر أمره بالتأكيد على إلغائها في مصر والشام.

 

وفي سنة 789 تكلم الأتابك برقوق، الذي سيصير ملكاً من بعد، في إبطال الأوقاف من أراضي مصر لأن  أراضي بيت المال أخذت منه بالحيلة، وجعلت أوقافا، فعقد لذلك مجلس حضره أهل العلم والأعيان، فقال الأمير برقوق: ما أضعفَ عسكرَ المسلمين إلا هذه الأوقاف، والصواب استرجاعها، فقال البلقيني: أما أوقاف الجوامع والمدارس وجميع ما للعلماء والطلبة فلا سبيل إليه، ولا يحل لأحد نقضه، لأن لهم في الخُمس أكثر من ذلك، وأما ما وقف على عويشة وفطيمة واشتري لأمثالهم من بيت المال بالحيلة، فينبغي أن ينقض إذا تحقق أنه أخذ بغير حق، فقال القاضي بدر الدين بن أبي البقاء: الأرض كلها للسلطان؛ يفعل فيها ما يشاء! فرد عليه بدر الدين ابن الشيخ سراج الدين وقال: بل السلطان كآحاد الناس لا يملك من الأرض شيئاً إلا كما يملكه غيره! فكثر اللغط وانفض المجلس، وتابع الأمر مشايخ آخرون حتى وأدوا الفكرة في مهدها.

 

وقد روى هذه الواقعة المقريزي في المواعظ والاعتبار، وهو يشير للبلقيني باسم شيخنا، ثم علق على ذلك فقال: فلما جلس برقوق على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقاف، ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا، فلما مات فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشام، وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له، وإلا فكثير منهم لا يدفع شيئاً البتة، لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام، فإنه استُهلك وأخذ، ولذلك كان أسوأ الناس حالاً في هذه المحن التي حدثت منذ سنة 806 الفقهاء، لخراب الموقوف عليها وبيعه، واستيلاء أهل الدولة على الأراضي.

 

وكان البلقيني في صفاته الذاتية ممن يمثلون صفوة العلماء خير تمثيل، دينا خيِّرا، وقورا حليما مهابا، سريع البادرة، قريب الرجوع، كثير التلطف، سريع البكاء في وعظه، مع الخشوع، قرئ عليه كتاب الشفاء للقاضي عياض فمدحه وأثنى عليه إلى الغاية، وكان يحضر درسه جماعة من المالكية فقال جلال الدين ابنه: ما لكم يا مالكيّة لا تكونون مثل القاضي عياض؟! فقال له أبوه: وما لك لا تقول للشافعية، ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض؟!

 

بلغ البلقيني في الفقه مرتبة الاجتهاد، وله ترجيحات في المذهب الشافعي خالفت من سبقوه، وله اختيارات خارجة عن الأصل المعمول به في المذهب، منها إفتاؤه بجواز إخراج الفلوس في الزكاة، واحترم العلماء اجتهاداته، واعترفوا له بالعلم وأنه طبقة وحده يفوق جميع علماء زمانه، ومن المفيد أن نذكر هنا ما قد يكون سبباً لتقاعس العلماء عن الاجتهاد، فقد قال الحافظ أبو زرعة العراقي في شرحه على جمع الجوامع لتاج الدين السبكي: قلت لشيخنا الإمام سراج الدين البلقيني: ما يقصِّر بالشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ وكيف يقلد؟ فسكت، فقلت له ما عندي: وهو أن سبب الامتناع هو الوظائف التي جُعِلت لفقهاء المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء، وامتنع الناس من استفتائه، فينسب للبدعة. فتبسم، ووافقني على ذلك.

 

وبقيت مكانة سراج الدين البُلقيني عالية عند الأجيال التي تلته، ويكفي أن الإمام جلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الذي ولد سنة 849 وتوفى سنة 911، وهو تلميذ صالح ابن البلقيني، لما كان في مرحلة طلب العلم، شرب في أثناء حجه من ماء زمزم، ودعا الله أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.

 

للبلقيني مصنفات عديدة في التفسير والفقه وأصوله والحديث وشروحه، وكثير منها لم يتمه لانشغاله كما رأينا بالتدريس والفتوى، إلى جانب ميله للاستطراد، حتى أنه كتب مجلدين في شرح 20 حديثاً من صحيح البخاري، ولذا قال ابن حجر عن أستاذه: قلمه لا يشبه لسانه، ولم يرزق مَلَكة في التأليف. ومن كتبه المتميزة كتاب القول الصائب في جواز القضاء على الغائب، وكتاب إظهار المستند في تعدد الجمعة في البلد، وكتاب الجواب الوجيه في تزويج الوصي السفيه.

 

كان البلقيني ينظم الشعر لأن ذلك من متطلبات الفقيه الكامل في عصره، ولكن الله عز وجل لم يهبه فيه شيئاً، فكان نظمه ركيك المعاني ضعيف الوزن، ولذا قال ابن فهد: وكان من اللائق به الإعراض عنه صيانة لمجلسه منه وأن ينسب إليه.

 

توفي البلقيني دون علة طويلة، وذلك في 10 ذي القعدة سنة 805، وصُلِّي عليه بجامع الحاكم، ثم دفن بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة، وهي مدرسة صغيرة كما يبدو من صورها في موقع الدكتور محمود صبيح، وأرفق منه صورة لضريح البلقيني.

 

ورثى البلقيني تلميذه الحافظ ابن حجر بقصيدة طويلة، مما جاء فيها:

 

يا عين جودي لفقد البحر بالمطر ... واذري الدموع ولا تبقي ولا تذري

 

يا سائلي جهرة عما أكابده ... "عدتك حالي لا سري بمستتر"

 

أقضي نهاري في غم وفي حزن ... وطول ليلي في فكر وفي سهر

 

فرحمة الله والرضوان تشمله ... سلامه ما بكى باك على عمر

 

لم أنس حين يحف الطالبون به ... مثل الكواكب إذ يحففن بالقمر

 

فيقسم العلم في مفت ومبتدئ ... كقسمة الغيث بين النبت والشجر

 

ولم يخص ببشر منه ذا نسب ... بل عمهم فضله بالبشر والبشر

 

من لو رآه ابن إدريس الإمام إذا ... أقر أو قر عينا منه بالنظر

 

محدث قل لمن كانوا قد اجتمعوا ... ليسمعوا عنه: فزتم منه بالوطر

 

محقق كم له بالفتح من مدد ... تحقيق رجوى نبي الله في عمر

 

لو قال هذي السواري الخشب من ذهب ... قامت له حجج يشرقن كالدرر

 

ذكرنا من قبل ابن البلقيني الأكبر بدر الدين محمد، الذي عهد له والده بقضاء العسكر، وبقي فيه حتى وفاته في حياة والده سنة 791، ويوصف أنه كان: حُفَظة ذكياً مفرط الذكاء، نظم الشعر الحسن، وكان جميل الصورة، حسن العشرة، مليح الصفات والذات.

 

وللبلقيني ابنين آخرين هما جلال الدين عبد الرحمن وصالح علم الدين، وسلكا مسلك والدهم في العلم والقضاء، وكان من سلالتهما علماء فضلاء، وولد عبد الرحمن سنة 762 وكان من عجائب الدنيا في سرعة الفهم ومتانة الحفظ، وتولى القضاء مرات بين التعيين والصرف، ووصف أنه كان شديد البأس تياهاً، وتوفي سنة 824، أما صالح فولد سنة 790 من زوجة أخرى، ودرس على والده ثم أخيه عبد الرحمن، ثم تصدر للإفتاء والتدريس بعد موته سنة 824، وولي قضاء الديار المصرية عدة مرات يعزل فيها ويعاد، وتوفي سنة 868 وهو على القضاء، وله مؤلفات في الحديث والفقه، منها كتاب تحفة الأمين فيمن يقبل قوله بلا يمين، وترجمة لوالده وأخرى لأخيه.

 

ويذكر المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار أن الأولاد تأثلت حالهم وكثرت أموالهم، وأن أكبرهم محمداً قد بنى داراً تجاه مدرسة والده ومات ولم تكمل، فاشتراها أخوه عبد الرحمن وكمّلها، وبها الآن سكنه، وهي من أجلّ دور القاهرة صورة ومعنى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين