شهيد بلا شهادة

العلامة البهي الخولي

-1-
هل نقدمه قدوة للرأسماليين ورجال الأعمال؟ أو نقدمه قدوة للعلماء وقد بلغ في علمه رتبة الإمامة؟... أو نقدمه مثلاً للمجاهدين، وقد أحرز حظاً وافراً من صفات الشجاعة وأريحية الفروسية؟..
أمور ثلاثة قد يبدو من طبيعة كل منها أنها تشغل صاحبها عن الأمرين الآخرين، ولكنها تناسقت في صاحبنا وتآزرت، فكانت كل صفة منها كأنها تمد غيرها بطاقات من الحفز وعناصر القوة لتدرك لديها مأرباً ذا شأن... ذلك لأنها  تستمد من ينابيع فطرة عظيمة، ونفس موهوبة، هي نفس الإمام الثري، الحافظ الفقيه، قدوة أهل الرباط حساً ومعنى... عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
قدمه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء بقوله: (ومنهم ـ أي الأولياء ـ السخي الجواد... الممهد للمعاد المتزود من الوداد... أليف القرآن والحج والجهاد... جاد فساد... وروجع فراد... ماله مشارك ) عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.
-2-
كان صاحب مال، ولكن نهمته لم تكن إلى المال وجاهه والتمتع به، قال ابن كثير: ( كان له رأس مال نحو أربعمائة ألف، يدور يتجر به في البلدان... وكان يربو كسبه منه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلياً في أهل العلم، والزهد، والعبادة).
وله أخباره في الجود والسخاء، يصل من يصل، أو يقضي عنه دينه، أو يقيل عثاره... أو... أو، ولكن الشأو الذي لا يكاد يلحق فيه أن حظه من هذا المال كان صيام الدهر... والاستخفاء بهذا الصيام فلا يعرفه أحد... شهد له بذلك قطن بن سعيد فقال: (ما أفطر ابن المبارك قط، ولا رئي صائماً قط)... أي: أنه كان يتستر بعبادته... وقرر ذلك عنه ـ أيضاً ـ إسماعيل بن عياش... وقال الحافظ ابن كثير: (كانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من  أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم أصحابه، وهو صائم الدهر في الحر الشديد...!.وقد يسأل أحدنا: إن لكل إنسان شهوة أو نعمة، ففيم ـ إذاً ـ كانت نهمة هذا الرجل؟! وهو نفسه يجيب عن ذلك بقوله: (إن أهل الدنيا خرجوا منها ولم يتطعّموا أطيب ما فيها) فقيل له: وما أطيب ما فيها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: المعرفة بالله عزَّ وجل)).
-3-
وكان صاحب علم حتى لقد بلغ فيه رتبة الإمام، وقد سئل سفيان الثوري في مسألة من العلم، فقال لسائله: من أين أنت؟ قال الرجل: من أهل المشرق... قال سفيان :أو ليس عندكم أعلم المشرق ؟ فقال الرجل: ومَن هو؟... قال سفيان: عبد الله بن المبارك... فعجب الرجل قائلاً: أهو أعلم أهل المشرق؟ قال سفيان: نعم... و أهل المغرب!
ولكن نهمة الرجل كانت عجباً في العلم، كان له إحساس عجيب ينظر إلى العلم على أنه أثر من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فيجد فيه من أنس الصحبة وجلال الحضور الروحي، ما يتضاءل إلى جانبه أنس أهل الدنيا بحظوظهم الحسيّة... كان يديم المكث في بيته لكتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدركه فيه ملل، ولا يقضى منه مأربه، لما يجد فيه من كنوز الفكر والروح، فقيل له مرة: إلى متى تكتب هذا الحديث يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد!وقيل له في ذلك أيضاً: ألا تستوحش؟ فقال: وكيف استوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟....
وكان لشغفه بذلك إذا قضيت الصلاة يعجل العودة إلى البيت، فقالوا له في ذلك يوماً رغبة في استبقائه بينهم، فقال: أذهب فأجلس مع الصحابة والتابعين؟ فقالوا: ومن أين الصحابة والتابعون ؟ فقال: أنظر في كتبي وعلمي فأدرك آثارهم وأعمالهم.
ولا عجب بعد ذلك إذا قوَّم نفسه على سمْت الصحابة في كل دقيقة وجليلة من أمره، حتى قال فيه إسماعيل بن عيّاش: (ما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك: ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير، إلا وقد جعلها فيه... بل حتى قال فيه سفيان ابن عيينة ـ وهو من هو ـ نظرت في أمر عبد الله بن المبارك، وأمر الصحابة رضي الله عنهم، فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكما فر من فتنة المال والعبادة إلى الاستخفاء والزهد، فر إليهما أيضاً من فتنة العلم... نزل الكوفة مرة، وبينما هو في مجلس علمه يقرأ عليه كتاب المناسك، بلغ القارئ مكاناً يقول فيه الكاتب: قال عبد الله بن المبارك: كذا، وكذا، فصاح منفعلاً: من كتب هذا من قولي ؟ قال القارئ؟ إنه الكاتب الذي كتبه..فأخذ الإمام الجليل يحك الكتابة بأصبعه حتى محاها... ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي
وقد يكون هذا من التصنع الذي يراد به أحياناً لفت الأنظار إليه لإذاعته، ولكنهم رووا عنه أن داره كانت بمرو ممتدة الرحاب، فسيحة الفناء، تحفل بمن يقصدها من خاصة الناس وعامتهم، فلما صار إلى الكوفة نزل بدار صغيرة يخرج منها إلى الصلاة ثم يعود إليها لا يكاد يأتيه أو يفطن إليه أحد، فقال له أحدهم: ألا ترى إلى ما أنت فيه إلى ما كنت فيه بمرو؟ فقال: لقد فررت من مرو إلى ها هنا حيث العافية من ازدحام الناس أو إشارتهم إلي: هذا ابن المبارك! نسأل ابن المبارك! اقصدوا ابن المبارك... وأدل من هذا وذاك على نشدان العافية في التخفي أنه مر مع صاحب له بسقاية يزدحم عليها الناس للشرب، فدنا ليشرب ولا يعرفه أحد، فزحمه الله ودفعوه، فلما خرج قال لصاحبه: ما العيش إلا هكذا!، أي: إلا حيث يكون المرء في غمار الناس لا يعرف ولا يوقر...
وجاه العلم، وفتنة المال، ومتاع الحس، آفات تهلك النفس، فكان الإمام العظيم يرابط لهما على ثغرات نفسه يحذر أن تخلص إليه خالصة منها فتهلكه، وكان يرى ذلك هو حق الرباط، وقد سئل يوماً عن الرباط في سبيل الله، فقال: (رابط بنفسك على الحق، حتى تقيمها على الحق، فذلك أفضل الرباط)
-4-
وكما كان صاحب مال وعلم، كان صاحب جهاد... أو صاحب غزو ومرابطة في أطراف البلاد وعلى خط مواجهة العدو... كانت بلدته مرو بإقليم خراسان، وكانت الشام الشماليَّة هي ثغور المواجهة مع العدو، فكانت له نعمة في الجهاد تقيل به من بلاده النائية وراء العراق إلى حيث المواجهة مع الروم،  فيقاتل إن كان قتال، أو يرابط ان كانت الخطة المرابطة والتربص... وكانت شهرته بذلك تعدل شهرته بالعلم والمال...
ويحصي له أئمة السير مواقفه الغر في الجهاد والمرابطة، وما له فيها من غناء وشجاعة، ولكن الأمر لديه كان فيما وراء الشجاعة والغناء، إذ لم يكن ينظر إلى الغزو على أنه مجرد فريضة، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وحسب المرء منها أن يحدث نفسه بها، أو أن يؤديها في حياته مرة أو مرتين، إذ قال عليه السلام: ( من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه به، مات ميتة جاهلية)... لم ينظر إلى الغزو من تلك الزاوية، بل نظر إليه على أنه باب إلى الخلود، وأمان من النار، فكانت مواجيده لا تفتأ تنازعه إلى أقصى الثغور، حيث أعلام الخلد وريح الجنة في غبار الغزاة... كان بطرسوس في إحدى مرات رباطه وغزوه، وذكر صديقه ـ أو أقرب أصدقائه ـ الفضيل بن عياض... وكان الفضيل منقطعاً للعبادة في حرم الله، أطهر بقاع الأرض...ولكن ما عسى تبلغ العبادة في الكعبة إلى ماهو فيه حيث غبار المعارك لا يجتمع مع فيح جهنم في أنف امرئ مؤمن، وحيث الصليل والصهيل يسكب أنشودة الخلد في قلب كل مقاتل:[وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{آل عمران:169}.ذكر ابن المبارك ذلك كله وحزن ألا يكون لصديقه مثل ما هو فيه، فتناول قلماً و خط به خواطر نفسه:
 
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا=لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه=فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا=وهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا=قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في=أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا=ليس الشهيد بميت لا يكذب
 
وقرأ الفضيل خطاب صديقه، وبكى وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني.
وكما فر من جاه العلم، إلى التخفي يفر من جاه الغزو إليه، روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة "عن بعض الأعلام قال: ( كنا في سورية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم... وكان صديقاً لي، فالتقى الصفان ذات يوم، وخرج منا رجل ملثم، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة وقتله! وخرج ثان فقتله، ثم ثالث ورابع فقتلهما، ثم حمل على العدو حملة صادقة، فأنكى فيهم ونحن معه حتى ولوا الأدبار...
قال: ففرحنا به، واجتمع إليه الناس ليعرفوه، ولكنه  ملثم، فأخذت بطرف لثامه فنزعته، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فنظر إليّ عاتباً وقال: وأنت  ممن يشنع علينا يا أبا عمرو..!! ).
وتوفي وهو منصرف من إحدى مرات غزوه بمكان اسمه هيت... لقد عاش شهيداً، فهل كتبت له الشهادة بعد مماته؟ لقد أمات متعة المال في نفسه لتحيا روحه بالله عزَّ وجل وتلك شهادة، وصرع شهوة الشهرة بالعلم لما يجد من جاه الأنس بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه... وتلك شهادة... وقتل شهوة الرياء في الغزو ليرى الله وحده مكانه فيه... وتلك شهادة... ولكنه يموت بهيت وهو منصرف من الغزو، وليس به دم الشهادة، فهل يكتبها الله له؟... قال أحد أبناء الفضيل بن عياض، رأيت عبد الله بن المبارك في المنام، فقلت له: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه... قلت: تعني الرباط والجهاد؟ قال: نعم. قلت: فأي شيء صنع بك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة... وزوجني من الحور العين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة 27 جمادى الأولى 1389 العدد الخامس.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين