شمولية الإسلام بين أبي جهل والمستشرقين ودعاة العلمانية

 

لم تكن شمولية الإسلام في يوم من الأيام مشكلة عند الناس، وغنما كانت بدهية من البدهيات، وكان اعتبار الإسلام دين ودولة عقيدة وشريعة أمر لا يتناطح فيه عنزان ولا يختلف عليه عاقلان، حتى كان القرن العشرين فكانت هذه الفتنة المقيتة، وسأبين هنا فهم الكفار من أمثال أبي جهل وعتبة وشيبة .... للإسلام رغم كفرهم، واعتراف المستشرقين بشمولية الإسلام للدولة والشريعة كما أنه دين وعقيدة، مقارنة بمن يدعون العلمانية (فصل الدين عن الدولة) وفي نفس الوقت يدعون الإسلام.

1. أبو جهل ومشركو العرب كانوا يفهمون طبيعة الإسلام:

العجيب أن أبا جهل ومشركي العرب أدركوا منذ فجر الدعوة أن الإسلام نظام شامل، وأنه لا يقبل شريكا في التشريع، وأن الحياة كلها خاضعة للإسلام وتشريعاته، ولا يبتعد عن ذلك عالم السياسة ولا عالم الاقتصاد، ولهذا عادت قريش دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وجنحت بعيدا عنها، ليس لأنه أتى بدين جديد؛ ولكن لأن هذا الدين الجديد جاء ليهدم فيما يهدم دولة الشرك بكل أنظمتها المختلفة، فخاف الناس على وضعهم السياسي الذي سيذهب، ويذهب معه كذلك وضعهم الاقتصادي.

لقد أدرك الجميع أن كما يقول سيد قطب: شريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية.. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً.....

ومن ثم فقد رأى أهل مكة في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم خروجا على دولتهم ونظامهم، ولو أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مجرد دعوة روحية تدعو إلى ضبط العلاقة بين العبد وربه ما صنعت مكة ما صنعت، فلقد سبق النبي صلى الله عليه وسلم حنفاء، لكن دعوة أنفسهم، ولم تأت بنظام جديد يضبط حياة الناس اقتصاديا وسياسيا وتربويا....

إن قريشا لم تعاد النبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى، وإنما نصابته العداء بعد أن اتضحت لها معالم دعوته، وخصائص شريعته، تلك الدعوة التي جاءت لترد البشرية إلى الله، وتسوي بين البشر، وتعدل بين الناس، وتحرر الإنسان من عبودية الإنسان، وتجعله حرا من كل عبودية إلا عبودية الواحد الديان.

ولهذا تعاملت قريش مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها دولة لها نظامها الخاص، والذي يسعى لإيجاد دولة تحمل أفكاره، وتنشر تعاليمه، وقد استخدمت قريش مع النبي طريقين أساسيين للحفاظ على دولتها:

الطريق الأول: طريق الترغيب: وفيه عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يسيل له لعاب طلاب الملك والدنيا، ويروي لنا ابن كثير موقفا يجسد هذه الإغراءات ويعددها حيث قالوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذِرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا، حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِن كَانَ هَذَا الذى يَأْتِيك بِمَا يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرَّئِيَّ - فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نبرئك مِنْهُ أَو نعذر.... السيرة النبوية لابن كثير (1/ 478).

هنا تتعامل قريش بصفتها دولة مع رجل أدركت أنه جاء بنظام يغاير ويهدم ما لديها من أنظمة.

الطريق الثاني: طريق الترهيب: وفيه استخدمت قريش القوة بعدما عجزت عن كف النبي من خلال الحوار، وفي بعض الأمور كان التعامل فرديا، لكن في المهم من القرارت كان القرار جميعا، وأحيانا موثقا مكتوبا، ولهذا حين أرادت أن تقاطعه ومعه بني هاشم تعاملت معه كدولة لا كأفراد، وقد كتبت قريش هذا المرسوم الحكومي لأنه (كان هناك حلف يعبر قانونا نافذ المفعول، هو (حلف الفضول) الذي عقدته بعض بطون قريش، وتعاهدت فيه على منع الظلم في مكة، وكان لا بد من تعطيل هذا الحلف مؤقتا بالنسبة لبني هاشم وبني عبد المطلب... ولهذا كانت قريش حريصة على الإجماع وعلى التواثق على ذلك) (الدعوة الإسلامية بين التنظيم الحكومي والتشريع الديني/ عبد الغفار عزيز/ ص 72، 73)..

وما فهمته قريش وعادت الدعو بسببه (مجيء الإسلا بنظام شامل) أدركه العرب كلهم، يحدثنا ابن هشام عن بني عامر بن صعصعة فيقول: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ- يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ ابْن فِرَاسٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِرَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ (الْخَيْرِ) بْنِ قُشَيْرِ ابْن كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ-: وَاَللَّهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ بَايَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَتُهْدَفُ  نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ سيرة ابن هشام (1/ 425). 

إن لفظة فراس بن ربيعة (أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ) تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لإقامة دولة، وهو يريد أن يكون لهم الحكم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إنه يريد مقابلا لإيمانه، وهذا مرفوض في الإسلام، فالإيمان لا يكون إلا لله، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ".

ولقد عبر الصحابة عن الخلافة والحكم بلفظة (الأمر) تلك اللفظة التي ذكرها متحدث بني عامر بن صعصعة، عبر الصحابة بذلك المفهوم في كثير من المواقف، ومن أشهرها ما قاله الصديق يوم السقيفة: ألا وإن محمدا عليه السلام قد مضى لسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم الله. وها هو عمر في موته حين حضره أجله، جمع أهل الشور وقال لهم: نظرت في أمر المسلمين، فوجدتكم أيها الستة رءوس الناس، وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم ما استقمتم يستقيم أمر الناس.

وهو ما عبر عنه القرآن في أكثر من موضع، كقوله سبحانه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء: 59)، وقوله جلّ شأنه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(النساء: (83).

2. مستشرقو الغرب يقرون بدولة الإسلام وعلمانيو العرب يرفضون:

لقد ظل العالم كله يدرك أن ارتباط الإسلام بالسياسة والسياسة بالإسلام حتى أقر أساطين الغرب بهذا كله، وينقل الدكتور ضياء الدين الريس أقوال المستشرقين في هذا الصدد لأنه يدرك أن من بني جلدتنا من هم عبيد للفكر الغربي، لا يؤمنون إلا بما قاله سادتهم وكبراؤهم، ومن أقوال هؤلاء المستشرقين: 

أ‌- يقول الدكتور " فتزجرالد " " dr  v fitzgerald ": ليس الإسلام ديناً فحسب، ولكنه نظام سياسي. وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم " عصريون " يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر.

ب‌- ويقول الأستاذ " نللينو " " c a nallino ": لقد أسس " محمد " في وقت واحد ديناً ودولة وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.

ت‌- ويقول الدكتور " شاخت " " dr schacht ": على أن الإسلام يعني أكثر من دين: إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً.

ث‌- ويقول الأستاذ " ستروثمان "" r strothmann ": الإسلام ظاهرة دينية . سياسية، إذ أن مؤسسه كان نبياً . وكان سياسياً حكيماً، أو " رجل دولة ".

ج‌- ويقول السير " توماس أرنولد " " sir t arnold ": كان النبي . في نفس الوقت، رئيساً للدولة.

ح‌- ويقول الأستاذ " جب ": عندئذ صار واضحاً أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به.

لكنه بعد رضوخ الدول الإسلامية تحت وطأة الاحتلال الأجنبي الغاشم والكافر، استطاع الغرب أن يجعل من السياسة الشرعية عدواً للإسلام، فإما أن يكون المرء مسلماً وإما أن يكون سياسياً، إما أن يكون ملتزماً، وإما أن يكون سياسياً، أما الجمع بينهما فلا.

3. الدولة الإسلامية من خلال مقاييس السياسة المعاصرة: أجمع خبراء السياسة العصريون من غربيين وشرقيين، ومن رأسمالينن وشيوعيين ومستقلين: أن العتاصر الرئيسية للدولة هي:

- سكان. - أرض. - حكومة. - سيادة.

والسؤال هنا: هل الدوالإسلامية استطاعت أن تجمع بين هذه العناصر أم لا؟

والإجابة: نعم بكل تأكيد: وذلك من خلال ما يأتي:

أ‌- السكان: كان هناك السكان الذين يمثلون الجماعة الإسلامية الأولى القاطنة في المدينة وما حولها من الريف والقرى، وهؤلاء السكان يفوق عددهم عدد بعض الدول العصريةالتي دخلت في منظمة الأمم النتحجة.

ب‌- الأرض: كان هؤلاء السكان يسيطرون على مساحة كبيرة من الجزيرة العربية، وهذه المساحة أكبر بكثير من مساحة بعض الدول العربية وغير العربية.

ت‌- الحكومة: كان هؤلاء السكان يدينون بالولاء لسلطة تدير شؤونهم كلها (سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية) وعلى رأسها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ث‌- السيادة: استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن تحقيق إرادته وإدارة أعمال السكان فقضى في مختلف الشؤون المالية والعائلية والجنائية وعين الولاة وقاتل الأعداء.... كما استطاعت هذه الدولة أن تهدد استقلال قوى عالمية (فارس وبيزنطة) بل قضت عليهما فيما بعد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين