شكوى الجمل

 

 

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم  بستاناً لأحد الأنصار، وكان هذا البستان واسعاً مُسوَّراً يكثر فيه النخيل، وكانت الظلال الوارفة تطرد الحَرَّ وتهيئ لمن جلس فيها أنساماً باردة تداعبه وتغريه بالبقاء فترة من الزمن يتمنّى كل لحظة أن تطول، وكان خرير الجداول المنبثة بين الأشجار عزفاً لطيفاً يملأ المكان أنساً ولطافة يغريان بالصمت، ويشدان الآذان إلى التحليق في أجواء موسيقى طبيعية حلوة.

وإلى جانب السور جمل بدا كله ملتصقاً بالأرض، ساكناً، يحرك عنقه بين الفينة والأخرى، يمضغ بعض الأشواك، ويرسل رغاءً خفيفاً بين الحين والآخر، فلما رأى الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم  نظر إليه بعينين سالت مدامُعها وبدأ صوته يتوالى، ومد رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لقد عرف فيه إنساناً رؤوفاً رحيماً، ونبياً عطوفاً كريماً، لا تعجب! فالحيوانات كلها كانت من جند سليمان عليه السلامُ تعرف مقداره ومكانته وتقرُّ له بالنبوة والطاعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  ذو المكانة الأرفع والمقدار الأسمى له من الآيات الدالة على محادثته الحيوان القصصُ الكثيرة، بل إن الجذع حنَّ إليه، ومال نحوه، وأصدر أنيناً حزيناً حين فارقه الرسول صلى الله عليه وسلم  على منبره، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم  المنبر، وخطا إليه يمسح عليه ليسكت، ويعدُه أن يكون من شجر المدينة إن صبر.

جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمل فمسح سنامه ورأسه وأذنيه بيده الرحيمة، وربتّ على رقبته، فسكن الجمل واستكان إليه. هذا الحيوان الأعجم هدأ حين وضع الرسول العظيم يده الحانية عليه وشعر بالأمان والاطمنان، وعلم أنه بين يدي أكرم الخلق على الله سبحانه، وعلم أنه وصل إلى من ينصفه، ويدفع عنه الظلم، فأسلم قياده إليه، واعتمد في رفع ظُلامته عليه، لقد آوى إلى ركن ركين، وملاذٍ أمين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صاحب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟))

فانطلق أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  يلتمس صاحبه ويبحث عنه، فلما عرفه، دعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فلما جاء مسرعاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما شأن جملك هذا؟ وماذا كلّفتَه؟)).

قال الأنصاري صاحب الجمل: لا أدري ما شأنه يا رسول الله، ولكنْ حملنا عليه أثقالاً كثيرة، ثم ربطناه إلى الساقية يدور حولها ليرتفع الماء فنسقي النخيل والأشجار، فبذل جهده، ثم توقف وقد ظهر العجز عليه، وهذا أمرٌ لم نكن نعهده فيه، فاتفقنا على نحره، وأكل لحمه، فقد أسنّ ولم يعد للعمل صالحاً.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تفعل ذلك، وأرِحه، وأكثر عَلَفه، ولا تكلفه إلا ما يُطيق، واتق الله فيما ملّكك من البهائم، ليبقى عليك فضله، ويزيدك من رزقه. فإن هذا الجمل شكا إليَّ أنك تجيعه، وتتعبه في العمل فلا تقابل نعمة الله بمعصيته، بل بالشكر والإحسان ليدوم لك الامتنان)).

رياض الصالحين

باب آداب السير، وأمر من قصّر في حق الدابة بالقيام بحقّها

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين