شغّل عقلك!

عندما يتحدث أحدنا عن "طاعة الله"، وضرورة اتباع ما أمر به، وترك ما نهى عنه، نجد من يباغتنا بجملة: "شغّل عقلك، أنت في القرن الواحد وعشرين"!

ويغفل الداعي لتشغيل العقل، أنه هو نفسه قد "عطّل عقله" كلما تعلق الموضوع بالدين، "وشغّل نفس العقل" بكامل طاقته، في كل ما يرتبط بقوانين الحياة!

بعض المواقف لا يحتاج إلى إيمان، بل إلى "تشغيل العقل"، ثم التحليل، والتمييز، والقياس، والربط، والاستنتباط؛ وكلها عمليات عقلية، ووظائف ذهنية تساعد في تنمية الخبرة، وتوسيع المدارك، واستلهام الدروس.

والغريب أن كثيراً من أولئك "العقلاء"، متناغمون إلى حدّ بعيد مع الحدود التي تفرضها "نواميس الكون"، بينما يجدون حرجاً كبيراً في التعامل بذات المنطق مع "طاعة رب الكون"!

فإن التزمت بقوانين الكون، فأنت العاقل الفاهم المتنوّر، وإن التزمت بأمر رب الكون، فأنت المعطل لعقلك، الجاهل لقيمة رأسك، المتقوقع خلف ما حواه!

- الأمر لا يحتاج إلى إيمان، بل إلى تصديق!

- وهل بينهما فرق؟!

- نعم، بالتأكيد، فالإيمان هو اليقين بخيرية ما تفعله، شَهِدتَ عواقبه أم لم تشهدها، تسليماً لمصدرها، والتصديق هو التوقف عند حدود التجربة، والاستفادة منها، ومن تجارب الآخرين.

ما رأيك أن نبدأ بتفصيل القضية، لعل بعد التشريح، يحصل التشريج لبطارية هذه الآلة الرائعة: "العقل".

لو أنك مشيت يوماً في بستان، ثم وجدت أمامك لوحة مكتوب عليها: (ممنوع التجاوز، حقل ألغام)، فهل ستفترض أن أحداً كتبها، وربما يكون كاذباً، أو متسلياً، أو متطفلاً يريد إزعاج الناس؟! هل ستنفّذ؟! أم ستتعالى وتتكبر، على اعتبار أنك لست متخلّفاً لكي تتراجع؟! هل أنت محتاج إلى تصديق عفوي تلقائي بقوانين المادة، أم إلى عناد قد يودي بحياتك؟!

عليك أن تصدّق أن اللوحة قد كُتبت ضماناً لسلامتك، وحفاظاً على حياتك، وليست مصادرة لحريتك، ولا استهانة بوجهة نظرك، ولا تقييداً لفكرك، ولا تسلّطاً عليك، يستوي في ذلك المؤمن بالله، وغير المؤمن، يكفي أحياناً أن تعرف قوانين الكون، وتثق أنها ستُطبّق عليك، وعلى غيرك، شئت أم أبيت، آمنت أو كفرت، ينجيك من عواقبها أن "تشغّل عقلك".

ثم لنفرض أنك كنت تقود شاحنة محملة بالبضائع، تزن عشرة أطنان، ووصلت إلى جسر مكتوب عليه: (الحمولة القصوى خمسة أطنان)، فهل ستكمل طريقك أم ستشغّل عقلك؟! هل ستنظر حولك لتتأكد أن أحداً لن يراك؟ هل ستتلفّت يمنة ويسرة لترى إن كان الشرطي يراقبك، فيجازيك؟ هل تظن أن القانون سيحابيك؟ سينحاز لك؟ سيتغاضى عنك؟ إن لم تكن متأكداً أن الجسر سيقع بك، فما شغّلت عقلك أيها الغالي! سيقع بك الجسر حتماً، وسيعاقبك القانون، وستدفع ضريبة مخالفتك! مؤمناً كنت أو غير مؤمن، لا فرق، فمخالفة القوانين تحمل بذور العواقب في رحمها، والناجي الوحيد هو الذي "يشغل عقله".

ليس المهم عند من يضع إيمانه جانباً، ثم يشغل عقله فحسب، من يراقبه، ومن يسجّل عليه، ومن سيغرّمه، المهم عنده أن يعرف كيف ينصاع لتلك النواميس، وينسجم معها، ويمضي حياته مصدّقاً بها، مجارياً لها، ومحترماً إياها.

تلك ثقة حازتها النواميس، وعقل أوصل إلى تصديقها، واحترامها، فلِمَ ينفصم ذلك العقل الحازم، إذا ما تعلّق الأمر "بتصديق أمرِ "من له الخلق والأمر"؟!

إن كنت ترغب في النجاح في دنياك، فقانون الحياة يقول لك:

لا تجرب ما لا تتحمل ضريبته، لا تغامر كبراً، لا تعاند تعالياً، لا تصمّم جهلاً، التزم، ولا تفتح بيدك باب النهايات الوخيمة، فإن المخالفات تجرّ العقوبات.

وإن كنت ترغب في الفلاح في الدنيا والآخرة، فربّ الكون جلّ وعلا يقول لك:

(ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)..

إننا نعلم الآن أسباب الذي نحن فيه! إنها المخالفات لأمر رب الأرض والسموات، نعلم لِمَ قد حصدنا هذا "المحصول"!

وماذا سيحصد من شغّل عقله، وصدّق بالنظام وقوانينه، ثم عطّله، وكذّب بالواجد المجيد، واستهان بسننه ونواميسه؟! وماذا سيجني من آمن بالأسباب بعقله، ثم كفر بالمسبّب بنفس ذلك العقل؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين