شعر الاغتراب والحنين و الاشتياق

بقلم : د . أحمد الفاضل
   أصدق الشعر وأجمله وأعذبه ما كان في العواطف الإنسانية الصادقة، كالحب والرثاء والفراق والاشتياق...فهو ينطلق من القلب ليقع في القلب،كخطاب الروح للأرواح،فإنه يُفهم بلا مشقة ولا عناء...
    حديث الأرواح للأرواح يسري.....وتُدركه القلوب بلا عناء !                     
   ولعل أعمق الأشواق في أغوار النفس الإنسانية حنين روحه واشتياقها لبارئها سبحانه ولخطابه الأول، حين قال لها: (ألستم بربكم قالوا بلى).
   و أشهر من طرق حنين الروح لذلك العهد البعيد ابن سينا في قصيدته العينية حيث قال:
   هبطت إليك من المحل الأرفع.....ورقاء ذات تدلُّل وتمنُّع
 ...................................      ...........................
 تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى.....بمدامع تهمي ولمّا تقلع
 وعمّق الفكرة وزادها جلاء وإشراقاً جلال الدين الرومي،حين تحدث عن سر ذوبان القلب وذرف العيون لسماع تغريد الناي...وبيّن أن الناي تبكي وتحنُّ لموطنها الأصلي لما كانت غصناً في شجرة في واد من الأودية، تتذكَّر عهدها الماضي فتبكيه و تحنُّ إليه...و حذا حذو الرومي الشاعر محمد إقبال فغنَّى حول هذه المعاني.
 وببكائها وحنينها تُبكي الإنسان حيث تثير في قلبه الحنين الأول الأوطان وتذكره بلذة ذلك الخطاب...فالناي تبكي و تُبكي...فتشتبك دموعها بدموعه...وتتعانق مشاعرها بمشاعره..
   و على هذا فالشوق للديار وسكانها جبْلي فطري فطر الله سبحانه القلوب عليه لأنه نفحة من الشوق للخالق عز وجل...
   وقد حنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة ولمّا يخرج منها بعد...! و ذلك عندما وقف على جبل من جبالها وشرع يناجيها بلسانه وعيونه وقلبه...
 فخاطبها بقوله:(ما أطيبك من بلد و أحبك إليَّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)!!
 و حدّثها بعيونه بعبَرات غزيرات تهاطلت على أرضها وهذه الدموع قابلت دموعها على رحيله منها فكانت بكاء لبكاء ووفاء لوفاء...و كم من أرض بكت لفراق من تحب وكم من أرض فرحت لزوال من تبغض و تكره...!!(فما بكت عليهم السماء والأرض).
   و سارّها بقلبه.. أي بلدي! الهجرة من أجل( لا إله إلا الله) يهون في سبيلها كل شيء،الأهل والولد و البلد...
 و لمّا اتخذ عليه الصلاة و السلام المدينة المنورة مقاماً ومستقراً، هويها وتعلّق بها ودعا لها فقال: اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّ مكة أو أكثر...
   و كان إذا فارقها لأمر اشتدَّ شوقه و حنينه لها حتى إذا دنا منها وبدت أطلالها ومعالمها، أخذ في التغني بها والطرب في ترديد اسمها.. فكان يقول: هذه طابة...هذه طيبة...هذا أحد جبل يحبنا ونحبه...
 و هذه الحب والشوق لطيبة سرى لأصحابه وأمته من بعده، فقالوا فيها و الاشتياق إليها من الشعر البديع ما لم يقل في بلد من بلاد الأرض...
   ومن أجمل ما قيل في ذلك قول الشيخ عيسى البيانوني:
   و لقد حُرِمت إقامةً في طيبةٍ.....يا ليت روحي بالمدينة تُنزَع
   و قول القائل:
   دار الحبيب أحق أن تهواها....و تحنُّ من طرب إلى ذكراها
    و لمحمد إقبال قصائد في المدينة المنورة والحنين إليها يصف فيها زيارته لها و الإبل التي حملته وحاديها ووقوفه أمام المصطفى ومناجاته له وشكواه...وكل ذلك بخياله؛لأنه لم يتيسر له زيارتها...وقد جمع ذلك العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه : (من روائع إقبال). 
   والتعبير عن الأشواق عند الشعراء كان يكون بصور شتى،من ذلك قول الشاعر:
 بكيت على سرب القطا إذ مررن بي....فقلت و مثلي بالبكاء جدير
 أسرب القطا هل من يعير جناحه....لعلي إلى من قد هويت أطير!
و كم حرم البعد عن الديار والأحباب أناساً من فرحهم و أعيادهم فقال قائلهم:
   الناس في العيد قد سُروا و قد فرحوا....وما سُررت به والواحد الصمد
 لمّا تيقّنت أني لا أعاينكم................أغمضت عيني ولم أنظر إلى أحد...............
 و إذا بعد المحب وبعد حتى غابت الآثار عن العين نظر الفؤاد:
 و تلفتت عيني فمذ خفيت....عني الطلول تلفت القلب!!  
 وتطول ليالي النائين عن أهل ودهم و أوطانهم و كأنها سنين :
  أعد الليالي ليلة بعد ليلة......و قد عشت دهراً لا أعد اللياليا!
 و تسحُّ دمعاتهم فتقرح عيونهم وتخدِّد خدودهم:
 فالعين بعدهمُ كأنّ حداقها....سُملت بشوك فهي عُور تدمع!
 حتى الماء يغصون به!!:
 وما شرقي بالماء إلا تذكراً....لماء به أهل الحبيب نزول!
 و لا تزول الغصص إلا باللقاء:
   فساغ لي الشراب وكنت قبلاً....أكاد أغصُّ بالماء القُراح
 ولن تطمئن نفس البعيد في غير بلده ولو حظي بمتع النفس كلها لأنها لا تعدل ما فقده من الأحبة و الوطن:
 العين بعد فراقها الوطنا......لا ساكناً ألفت ولا سكنا!!!
 و البعاد عندهم أشد على النفس من ضربات السيف المتلفة:
 لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً....على النفس من قتل بحد فراق
   و الإبل على كرامتها عندهم وحاديها على أثره وجمال حدائه إلا أنهم ينغصّون حياة المحبين فهما مفرقان...:
 يا حادي العيس ميّل كي أودعهم....يا حادي العيس في ترحالك الأجل
 ومن أعجب الأحوال أن هؤلاء المحبين دموعهم لا تنقطع في القرب والبعد:
   نبكي إن نأوا شوقاً إليهم.....ونبكي إن دنوا خوف الفراق!!
 ومنهم من ينادي دياره_ و كأنه يحبس روحه_ لتضم بدنه بعد الرحيل...يقول الشاعر القروي:
 بنت العروبة هيِّئي كفني....أنا عائد لأموت في وطني
 أأجود من خلف البحار له....بالروح وأضنُّ بالبدن!!
لكن مما يخفف من غلواء النأي والغياب أمل اللقاء وانتظاره والتَّسلي بذكر الأحبة و النظر في آثارهم والتصبُّر:
   لولا اصطبار لأودى كلُ ذي مِقة....لمّا استقلت مطاياهن للظعن
 لولا رجاء لقاء الظاعنين لما......أبقت نواهم لنا روحاً ولا جسدا
 لا تأس يا قلب من وداع.....فإن قلب الوداع عادوا!!!
 يا عين إن بعد الحبيب و داره....و نأت مرابعه و شق مزاره
 فلك الهنا فلقد حظيت بطائل....إن لم تريه فهذه آثاره
ونظر القلب بعد فوت نظر العين يسكنه:
 إن كنت لست معي فالذكر منك معي....يراك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تبصر من تهوى و تفقده......وناظر القلب لا يخلو من النظر
 و عيدهم وسرورهم عندما يلثمون تراب أوطانهم:
 إن عيدي يوم آتي حيهم....و أمرّغ في ثراهم مقلتي
 وأروع المشاهد في هذا الباب تذكر أيام الطفولة و الصبا والحب النقي الطاهر العفيف:
 صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا.....إلى الآن لم نكبر و لم تكبر البهم
 وقد يكون اللقاء بعد الفراق فإن حال الموت بينهم فما أكثر الحسرات التي تذهب مع أصحابها إلى مراقدهم:
فإن نحن التقينا قبل موت.....شفينا النفس من ألم العذاب
و إن ظفرت بنا أيدي المنايا...فكم من حسرة تحت التراب
وكلهم ينتظر ساعة اللقاء و الاجتماع:
أما الرحيل فدون بعد غد..... فمتى تقول الدار تجمعنا؟!
لا ريب أنه قريب قريب (إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا)...


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين