شعب جاهل ومدرسون لا يدرسون - شعب جاهل

شعب جاهل ومدرسون لا يدرسون

بقلم فضيلة الشيخ علي الطنطاوي


هل دخلتم (الأموي) في رمضان؟ ادخلوه مرة لتروا هذه الحالة التي لا يرضى عنها الله، ولا يرضى بها الناس، ولا تقبل أمة في الدنيا أن تكون على مثلها معابدها، ولتخبروني من هو المسؤول عنها؟ من؟ المفتي؟ مدير الأوقاف؟ الشرطة؟ من هو المسؤول؟
لم يعد الأموي مسجداً، كلا. وهل يمكن أن يمتلئ مسجد بهذه الجثث المرمية، بهؤلاء الكسالى النائمين في الجامع بالطول والعرض، لا يستطيع إنسان أن يمشي فيه حذراً من أن يدعس في بطن واحد منهم، أو يطأ على عنقه، قد التقت رؤوسهم بنعالهم التي اتخذوها وسادة وناموا عليها، وتكورت أجسادهم أو امتدت، وفعلوا كل ما يفعله النائم.
وهل يمكن أن يكون في مسجد مثل هؤلاء اللاهين المتبطلين، الذين تحلقوا حلقاً لا يجمعها ذكر الله، ولا حديث العلم، ولكن يجمعها الكلام الفارغ والغيبة والنميمة، والضحك وكل ما يكون في القهوات، وهم لو وجدوا قهوة يضيعون النهار فيها، لما جاؤوا يتخذون من أكبر جامع في الدنيا قهوة من القهوات.
وهل يمكن أن يكون في مسجد مثل هؤلاء الأولاد الذين يثبون من هنا وهناك أمثال الجن، يصرخون حتى تزيغ من حركاتهم الأبصار، وتنخرق من صياحهم الآذان... كأنهم في مدرسة غاب معلمها.
وأدهى من ذلك كله أنكم لا تجدون في هذا الجامع الممتلئ بالناس، إلا ثلاث حلقات أو أربع يقرأ فيها جماعة من العوام، من العوام حقيقة، منهم هذا العبد الأسود، الذي  لا أدري من أين ينبع كلما جاء رمضان، وعامي آخر جديد له لحية طويلة جداً، ولهجة تدل على أنه قروي، وقفت عليه لحظات فسمعته يقرر أن موسى عليه السلام علم قارون الكيمياء فصار بها غنياً، وفسر الكيمياء بأنها علم تحويل التنك (هكذا) إلى ذهب، وأن موسى كان أعلم الناس بها.
إن رمضان موسم المساجد، والذي لا يدخل الأموي السنة كلها يدخله في رمضان، فخبروني عن الشاب المتعلم، والطالب الجامعي، إن دخله ليستمع فيه موعظة تدله على الله تعالى، أو مسألة تعرفه بالحلال من الحرام، أو تفسير آية أو شرح حديث، فلم يجد إلا هؤلاء النائمين، وهؤلاء اللاهين، وهؤلاء المدرسين الجاهلين، بم يخرج؟ أبالإيمان والعلم أم بكراهية المساجد وأهلها؟
وكل قادم على دمشق، يرى (الأموي) أول ما يرى من دمشق، فخبروني عن السياح من المسلمين وغير المسلمين ماذا يقولون عنا إذ يرون هذا كله؟
أليس في دمشق من المدرسين غير هؤلاء ؟ ألم يبقَ في دمشق أحد من العلماء؟
بلى ولكنهم لا يظهرون إلا في اليوم الأول من كل شهر يجتمعون أمام الصندوق في الأوقاف وفي دائرة الإفتاء ثم يختفون فلا يراهم الناس، ولا تبصرهم المساجد، إلى أول الشهر التالي...
إن الإسلام يوجب على العالم أن يبين الحق للناس، وأن لا يكتم العلم، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فكيف يستحلون لأنفسهم أن يأثموا مرتين: مرة بكتم العلم، والسكوت عن إنكار المنكر، ومرة بأخذ الأجرة على عمل لم يعملوه؟.
وإن الضرائب في بلادنا أكثر ـ مع الأسف ـ ضرائب غير مباشرة، يستوي فيها الغني ذو الملايين، والفقير المدقع الذي لا يجد الكفاف، فهل يذكر هؤلاء الأساتذة أنَّ الرواتب التي يأخذونها بلا عمل، هي ما انتزع من أفواه الأرامل واليتامى والفقراء العاجزين؟ وإن هذه الرواتب لو أعطيت لجماعة من الشباب المسلمين الذين يعملون للدعوة الإسلامية عن إخلاص ويقين، لأثمرت على أيديهم خلال ثلاث سنوات فقط، ما لم تثمر عُشره على أيدي هؤلاء المشايخ خلال ثلاثين عاماً.
لقد كان وجه الإسلام بادياً في مظاهر الحياة كلها، فاختفى من دوائر الحكومة يوم أخذنا بقوانين الإفرنج، وتركنا لها شريعتنا، واختفى من مدارس الحكومة يوم أخذنا برامج الإفرنج وتركنا مناهج ديننا، واختفى من أوساط (الأكابر) يوم حملوا إمامهم في آداب الحياة، وأوضاع المجتمع، ما عليه الإفرنج، يدعون الخير والحق، لأنهما شرقيان ويأخذون الشر والباطل لأنهما مجلوبان من بلاد الإفرنج، واختفى من أسواقنا حين نسينا أحكام المعاملة الإسلامية، واصطنعنا الكذب والغش وإخلاف الموعد، ولم يبقَ لنا إلا المساجد، فهل ندع وجه الإسلام يختفي حتى من المساجد؟!!
المسجد في الإسلام هو المدرسة وهو البرلمان، وهو المعبد، وهو النادي الخيري، ولا أحب أن أذكركم بمساجد الكوفة والبصرة والفسطاط وبغداد ولا  بحلقات التفسير والفلسفة والمنطق، ولا بأثر هذه الحلقات في تاريخ العلم إذ ولدت فيها هذه العلوم كلها وقعدت قواعدها، وأرسيت أصولها، وفرعت فروعها وإذ خرجت منها الآلاف المؤلفة من الكتب فإن هذا تاريخ بعيد، ولكن أرجع بكم ثلاثين سنة فقط، إلى العهد الذي كان يدرس فيه في جامعكم هذا طائفة من الأعلام أمثال الشيخ بدر الدين، محدث الدنيا في عصره، والسيد محمد جعفر الكتاني الكبير الحافظ الذي لا مثيل له، والشيخ نجيب كيوان الفقيه الحنفي الشهير، والشيخ الكافي وهو أفقه فقهاء المالكية في هذا العصر، والشيخ الجوبري أفقه شافعي في ديار الشام، والعالم السلفي البليغ الشيخ بهجة البيطار، والمحدث الأديب المحاضر الشيخ صالح التونسي، والشيخان الجليلان السلفيان الشيخ: أحمد النويلاتي، والشيخ: خالد النقشبندي. والعالم المدقق الشيخ: عبد القادر الاسكندراني. أفبعد هؤلاء الأعلام يخلو الميدان لهؤلاء الجهلة الأدعياء ومن ليسوا من العلماء؟.
ولقد صحبت أستاذنا المفتي العالم الشيخ أبا اليسر عابدين ووقفت معه على هذه الدروس وأريته هذه الحال، فأنكرها أشد الإنكار، وأمر بمنع هؤلاء الجاهلين ولكنهم لم يمتنعوا... ومنعهم شيء لابد منه لأنه درء للمفسدة ولكنه لا يصنع شيئاً، إذا لم يعد هؤلاء المدرسون (الموظفون) إلى دينهم وإلى ضمائرهم، ويقوموا بحق الله، وحق الأمة عليهم، وإلا فكيف يكونون مدرسين وهم لا يدرسون وكيف يسكت عنهم المفتي، ويسكت عنهم مدير الأوقاف؟ وهل يمكن أن يكون في دائرة من دوائر الدولة موظف لا يعرف له ولا يعرف هو لنفسه عملاً معيناً، يؤديه في وقت معين، في مكان معين، ولا يكون خاضعاً لرقابة رئيس، ولا تفتيش مفتش، ولا يحضر إلا يوم قبض الراتب؟!
أيمكن أن يسمى مثل هذا موظفاً؟ وإذا كانت الأوقاف دائرة ملحقة ليست من دوائر الدولة الأصلية، لذلك يجوز فيها من المخالفات ما لا يجوز في غيرها، فما بال دائرة الإفتاء. وهي دائرة رسمية؟ وكيف يسوغ فيها ما لا يسوغ في دائرة حكومية في الدنيا؟
إن كانت هذه الرواتب رواتب مواساة ومساعدة أي: هدايا وصدقات فصرحوا بهذا أولاً، وضعوه في مواضعها، وأعطوها المحتاجين إليها ثانياً، وإن كانت رواتب على عمل، فطالبوا أصحابها بالعمل.
أنا لا أظن أنه مر على المسلمين عهد احتاجوا فيه إلى الدعوة إلى الله، وإلى بيان حقائق الإسلام، ورد الشبه عنه، وتجريده من البدع والخرافات كهذا العهد.
فكيف تريدون أن نقبل بدع هذه الرواتب لرجال سميناهم دعاة وهم لا يعملون شيئاً ؟.
وكيف يأملون أن يكون لهم بعد هذا من الحصانة والتقديس ما يمنع عنهم كل نقد؟
كيف تقبل أن تدفع الأجرة مضاعفة لطبيب تحتاج إليه، وترقب قدومه على مثل الجمر، من وجع المرض، وأمل الشفاء، ثم لا يجيء ولا تقول له، لماذا لم تجئ؟
إن الخير في طبائع الناس، والدين في أعماق قلوبهم، وهم لا يحتاجون إلا إلى من يثير حب الخير في الطباع، ويوقظ الإيمان في القلوب، ولو تجرد لهذا واحد من هؤلاء العلماء، واحد فقط لأحيا الله به هذا البلد، ولرد به أهله إلى جادة الإسلام التي تنكبوها، وأضاعوها في ظلمة الأحداث، وقفرات الجهل.
ولا يشترط فيه أن يكون علامة الدنيا، ولا أن يكون خطيب العصر ولا أن يكون علماً مشهوراً، لا بل أن يكون متجرداً من هوى الجاه فلا يطلب منصباً ولا مشيخة ولا رياسة مادية ولا روحية، ومن هوى الغنى والغانيات فلا يغريه جمال ولا مال، وأن يكون قانعاً من دنياه بما يقع تحت يده مما يقيم الأَوَد، ويقوم بحق الأهل والولد.
هذا هو الشرط، لا العلم والبيان، وحسن سبك الجمل، وجودة إنشاء الكلام. إن آخر ما يطلب من واعظ المسجد، وخطيب الجمعة، هو القدرة على رصف الألفاظ، وزخرفة الكلام.
إن هذا شيء أعده أنا من التحسينات: نقوش على الجدران فما فائدة النقش على جدار واه؟ أما الجدران، أما أركان البنيان، فأشياء ثلاثة: أولها الإخلاص، وثانيها الإخلاص، والثالث الإخلاص، ورب خطبة من عشر جمل، بأسلوب عادي، صادرة عن القلب، من رجل لا يكذب فعلُه قولَه، ولا تناقض سيرته خطبته، تكون أبلغ من خطبة طويلة، حافلة بالنصوص والشواهد، مكتوبة بأجمل أسلوب خطابي، لكنها صادرة من طرف اللسان، من رجل يأمر بما لا يأتمر هو به، ويقول للناس ما يفعل غيره.
فمتى يدرك هذه الحقيقة خطباء المنابر؟ ومتى تدركه مجالس الأوقاف التي تختار الخطباء؟
وشيء آخر هو أن يبدأ الوعاظ والخطباء، بوضع الأساس أولاً، ثم بإقامة الجذوع والأركان أن يحببوا إلى الناس الإيمان، ويكرهوا بهم الكفر والفسوق والعصيان، فإذا كان لهم هذا فتشوا هم على من يعلمهم الفروع ويلقنهم الأحكام، كشاب ترك المدرسة، وزهد في الدراسة، ماذا ينفعك أن تعلمه مسائل الجبر، ومعادلات الكيمياء؟ ابدأ به فأعد له رغبته بالعلم، وحبه للدرس والتحصيل، فإن فعلت ذهب هو يفتش بنفسه عن مدرسة يدخل فيها وعن مدرسين يأخذ عنهم...
إن المسألة ليست مسألة مدرسين جاهلين، وكسالى نائمين في الجامع الأموي، ولا مسألة موظفين يقبضون رواتبهم ولا يقومون بأعمالهم، بل هي أوسع وأعمق من هذا كله، هي مسألة الناشئة التي ابتعدت عن الإسلام جهلاً بحقائقه والتي لا تعود إلى الإسلام إلا إذا أوقظ في نفوسها الإيمان أولاً، ثم عرفت حقائق الإسلام ثانياً، و‘إن هذه الرواتب التي وضعت في موازنات الفتوى والأوقاف وسيلة لإرضاء الناس، وكف الألسنة وشراء الصداقات، وأن تعطيها رجالاً ما كانوا قط من رجال الدعوة ولا يحسون من نفوسهم دافعاً إليها، ولا يتورعون عن أن يأخذوا هذه الرواتب بلا عمل.
إنه يجب وجوباً على دائرة الفتوى وعلى مديرية الأوقاف، أن تعيد النظر في هؤلاء المدرسين فمن لم يكن في سيرته وعلمه وبيانه، أهلاً لهذا العمل سرحته سراحاً جميلاً، ولم تبال به مهما كان طويل اللسان كثير الأعوان والإخوان، ووضعت في مكانهم شباباً من هؤلاء الشباب المؤمنين المتفقهين، من المتخرجين في الأزهر والكليات الشرعية، وأنا أشهد أن فيهم من هو خير من كثير من هؤلاء المدرسين، واسألوا سماحة المفتى كيف وجه الذين اختارهم منهم لمناصب الإفتاء، في بعض الأقضية والمحافظات، كتل كلخ والجزيرة.
ثم قررت بعد ذلك لهؤلاء المدرسين منهجاً معروفاً، عملاً معيناً، يؤدى في مكان معين، في وقت معين، كما هي في كل موظفي الدولة السورية، وسائر الموظفين في سائر الدول، وأن لا يتركوا لهوى نفوسهم، يقرؤوا ما شاؤوا من الكتب، حيثما شاؤوا من المساجد والبيوت، حينما شاؤوا من الأوقات، أو لا يقرأون شيئاً على الإطلاق، وهذا هو الواقع من أكثرهم.
وأنا أحب أن أكون منصفاً فأقرر قبل أن أترك القلم، أن هذا الداء الذي أصفه داء قديم، وأنه لا يسأل عنه مفتي الجمهورية أستاذنا أبو اليسر، ولا مدير الأوقاف الأستاذ القاسمي شخصياً؛ لأنهما لم يختارا هؤلاء المدرسين جميعاً ولا وضعا لهم هذا الأسلوب، ولكنهما سيسألان غداً شخصياً، إذا قرءا هذا الكلام فلم يحركا ساكناً، ولم يصلحا فاسداً، ولم يقوما معوجاً، ويومئذ لا جاء ذلك اليوم نكون معذورين إن فعلنا ما توحيه علينا أمانة القلم وواجبات الدين.

علي الطنطاوي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين