شخصية المسلم مع مجتمعه -5- حسن الخلق

حسن الخلق:

والمسلم الحق حسَن الخلق، موطّأ الكنف، لين القول، عملا بهدي الإسلام، وتأسيا بالنبي عليه الصلاة والسلام.

فلقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يروي خادمه أنس، أحسن الناس خلقا) ([1]) ولم يكن أنس رضي الله عنه مبالغا في قوله، ولم تحمله محبته له على المبالغة، فلقد رأى من حسن خلق الرسول الكريم ما لم تره عين، ولا سمعت به أذن. وندع أنسا رضي الله عنه يحدثنا عن طرف من خلق نبي الإسلام العظيم، فيقول: (لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟)([2]).

ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا، كما يقول عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يكرر على أسماع الصحابة قوله: (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا) ([3]).

وقوله: (إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا) ([4]).

وقوله: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون([5]) والمتشدقون([6])والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبرون) ([7]).

كان الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون هذا التوجيه الخلقي العالي من الرسول الكريم، ويرون بأعينهم الخلق الرفيع الذي كان يعامل به الناس، فيعملون بقوله، ويتأسون بفعله، وبذلك قام مجتمعهم الأمثل الذي ما داناه مجتمع في تاريخ الإنسان.

يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي رحيما، وكان لا يأتيه أحد إلا وعده، وأنجز له إن كان عنده. وأقيمت الصلاة، وجاءه أعرابى فأخذ بثوبه، فقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة، وأخاف أنساها، فقام معه حتى فرغ من حاجته، ثم أقبل فصلى) ([8]).

لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجا في أن يستمع إلى الأعرابي ويقضي حاجته، وقد أقيمت الصلاة، ولم يضق صدره بذاك الأعرابي الذي أخذ بثوبه، وأصرَّ على قضاء حاجته قبل الصلاة، لأنه، صلوات الله عليه، كان يبني مجتمع الأخلاق، ويعلم المسلمين بفعله كيف يجب أن يعامل المسلم أخاه الإنسان، ويقرر لهم المبدأ الخلقي الذي ينبغي أن يسود مجتمع المسلمين.

وإذا كان حسن الخلق عند غير المسلمين يرجع إلى حسن التربية وسلامة التنشئة ورقيّ التعليم، فإن حسن الخلق عند المسلمين يعود قبل هذا كله إلى هدي الدين الذي جعل الخلق سجيّة أصيلة في الإنسان المسلم، ترفع من منزلته في الدنيا، وترجح كفة ميزانه في الآخرة، إذ ما من عمل أثقل في ميزان الإنسان المؤمن يوم الحساب من حسن الخلق، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) ([9]).

بل إن الإسلام جعل حسن الخلق من كمال الإيمان، إذ عد أحسن الناس خلقا أكملهم إيمانا، وذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) ([10]).

وجعل أحسن الناس خلقا من أحب عباد الله إليه يشهد لذلك حديث أسامة بن شريك، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه ناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: (أحسنهم أخلاقا) ([11]).

ولا غرو أن يكون أحسن الناس خلقا أحبهم إلى الله، ذلك أن حسن الخلق في شريعة الإسلام شيء عظيم، إنه لأثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة كما رأينا، وإنه ليعدل الصلاة والصيام، ركني الإسلام الكبيرين، كما قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن حسن الخلق ليبلغ بصاحبه درجة الصوم والصلاة) ([12]). وفي رواية: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).

ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أهمية حسن الخلق للصحابة الكرام، ويحضهم على التجمل به، ويحببه إلى نفوسهم بأساليب شتى من قوله وفعله، إدراكا منه لأثره الكبير في تهذيب الطباع، وتزكية النفوس، وتجميل الخلائق، ومن ذلك قوله لأبي ذر: (يا أبا ذر، ألا أدلك على خصلتين، هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟) قال: بلى يا رسول الله، قال: (عليك بحسن الخلق، وطول الصمت. فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق([13]) بمثلهما) ([14]).

وقوله: (حسن الخلق نماء، وسوء الخلق شؤم، والبر زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء) ([15]).

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : (اللهم أحسنت خلقي، فأحسن خلقي) ([16]).

إن دعاء الرسول الكريم أن يحسن الله خلقه، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4] لدليل عميق على اهتمامه الشديد بحسن الخلق، ورغبته الحارة في أن يستزيد المسلمون دوما منه، مهما سموا في معارجه الوضاء، كما كان يستزيد نبيهم العظيم منه بهذا الدعاء. وحسن الخلق كلمة جامعة، يندرج تحتها كل خلق كريم يجمل الإنسان، ويزكيه، ويسمو به، كالحياء والحلم والرفق والعفو والسماحة والبشر والصدق والأمانة والنصيحة والاستقامة وصفاء السريرة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.

بيد أن الباحث المستقصي نصوص التوجيه الاجتماعي في الإسلام، يجد نفسه أمام حشد كبير جدا من النصوص التي تحضّ على كل خلق من هذه الأخلاق الاجتماعية الرفيعة، مما يدل على عناية الإسلام البالغة في تكوين شخصية المسلم الاجتماعية تكوينا دقيقا، لا يكتفي بالعموميات، بل يقف عند كل جزئية من الجزئيات الخلقية التي تكون جانبا من جوانب الشخصية الاجتماعية المتكاملة. وهذا الاستيعاب والشمول لم يتوافرا في منهج من مناهج التربية الاجتماعية توافرهما في منهج هذا الدين.

ولا مناص للباحث من الوقوف عند هذه النصوص جميعا، والإلمام بما تضمنته من هدي وتوجيه وتشريع، ليستطيع تجلية الشخصية الاجتماعية الراقية التي تميز بها المسلم التقي الواعي وتفرد.

يتبع

الحلقة الرابعة هـــنا

 

([1])متفق عليه.

([2])متفق عليه.

([3])متفق عليه.

([4])رواه الطبراني وأحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات.

([5])الثرثارة كثير الكلام.

([6])المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه..

([7]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

([8])أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

([9])رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحح.

([10])رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحح.

([11])رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

([12])رواه الترمذي والبزار ورجاله ثقات.

([13])الخلائق: جمع الخليقة، والخليقة هنا: الناس، ففي القاموس: (الخليقة: الناس كالخلق). وفي الصحاح: (الخلقية: الخلق، والجمع: الخلائق. يقال: هم خليقة الله أيضا).

([14])رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال أبي يعلى ثقات.

([15])رواه أحمد، ورجاله ثقات.

([16])رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين