شحروريات (٦): القرآن الماركسي

أود أن أشير قبل البداية في موضوع مقالي هذا إلى أنّ فيه شيئاً من الصعوبة لتطرقه إلى مصطلحات فلسفية لا يمكن تبسيطها وشرحها باستيفاء في مقال فيسبوكي وحسبي أن يصل القارئ إلى النتيجة التي يرمي إليها..

ربما كان من أخطر ما رمى إليه الشحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) أن يتسلل إلى عقل القارئ ليبثّ فيه أفكار المادية الجدلية الماركسية (الديالكتيك) التي لا تعترف بوجودٍ إلا وجودَ المادة التي تتحول وتتغير باستمرار بفعل جدل صراع الأضداد في الطبيعة الذي يسمونه النفي ونفي النفي ويحاول الوصول إلى ذلك باستكراه آيات القرآن العظيم وليّ أعناقها لتوافق مبادئ هذه الفلسفة المادية الملحدة.. وهاك بعض النقول من كتابه هذا التي توضح ذلك بجلاء لا لبس فيه:

قال في الصفحة ٨٠:

[لقد قلنا: إن القرآن جاء من (قرن) وهو من جمع الجزء الثابت من قوانين الكون الموجود في (اللوح المحفوظ) مع الجزء المتغير الموجود في (الإمام المبين). لذا فإن القرآن يحتوي على موضوعين هما:

1 – الجزء الثابت وفيه القانون العام للوجود المادي الثنائي والذي يتمثل في جدل هلاك شكل الشيء باستمرار وجدل تلاؤم الزوجين. ويعتبر التطور وتغير الصيرورة العمود الفقري لهذا الجزء، ويتمثل بالانفجار الكوني الأول وقوانين التطور حتى الساعة ونفخة الصور الأولى والثانية والبعث والحساب والجنة أي خط الوجود المادي كله مع خط تطوره الحتمي.]

فانظر إلى هذا الحشد لمصطلحات المادية الجدلية: (الوجود المادي الثنائي، جدل هلاك شكل الشيء باستمرار، التطور وتغير الصيرورة،).. هذا غير التقسيم الاعتسافي لكتاب الله إلى قرآن وكتاب والقرآن إلى اللوح المحفوظ والإمام المبين بمجرد الهوى والتحكم الذي لا يستند إلى عقل ولا نقل.. وربما أفردنا لهذا التقسيم الاعتباطي مقالاً خاصاً..

وقال في الصفحة ٢٩٠:[من هنا نستنتج:

أ – أن البشر وجد على الأرض نتيجة تطور استمر ملايين السنين “البثّ” حيث أن المخلوقات الحية بث بعضها من بعض طبقاً للقانون الأول للجدل، وتكيفت مع الطبيعة وبعضها مع بعض طبقاً للقانون الثاني للجدل.]

يريد بكلمة (البثّ) تفسير قوله تعالى (وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِیهِمَا مِن دَاۤبَّة) – الشورى ٢٩ – فالبثّ حسب التفسير الشحروري الماركسي المخلوط بالداروينية هو تطور الكائنات بعضها من بعض حسب القانون الأول للجدل (الديالكتيك)، وهذا القانون ينص على أن كل شيء في الوجود هو في حالة تغيّر كمّي متواصل يؤدي في النهاية إلى تغير نوعي، ثمّ تكيّفت هذه المخلوقات مع الطبيعة حسب للقانون الثاني للجدل الذي هو قانون صراع الأضداد.

وقال في الصفحة ٢٢٣-٢٢٤:

[إن صراع العنصرين المتناقضين داخلياً، الموجودين في كل شيء يؤدي إلى تغير شكل كل شيء باستمرار، ويتجلى في هلاك شكل ذلك الشيء وظهور شكل آخر. وفي هذا الصراع يكمن السر في التطور والتغير المستمرين في هذا الكون ما دام قائماً. هذا هو ما يسمى بالحركة الجدلية الداخلية التي أطلق عليها في بعض الترجمات مصطلح النفي ونفي النفي. وقد أطلق عليها القرآن مصطلح التسبيح... والتسبيح جاءت من “سبح” وهو الحركة المستمرة “كالعوم في الماء” كقوله عن حركة كل شيء: {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء 33). هذا الصراع يؤدي إلى التغير في الأشياء.... إلى أن يقول:

أما القول بأن “سبحان الله” هو تنزيه الله من النقائص والعيوب فهو قول قد مضى زمانه،]

وليس هناك أصرح من هذا في تبني مبادئ فلسفة ماركس (الديالكتيك) في شرحه للقانون الثاني من قوانينها (جدل صراع الأضداد) ومصطلحاتها (النفي ونفي النفي)، لكنّ الجديد في التحريف والتضليل أن يجعل معنى (التسبيح) الوارد في آيات كتاب الله هو هذه (الحركة الجدلية الداخلية) ليتلعّبَ بكلام الله سبحانه ويجعل منه شرحاً لفلسفة مادية إلحادية.. فتأمّل..

أما المعنى الذي يفهمُه المسلمون أجمعون من عبارة “سبحان الله” على أنه تنزيه الله عن كلّ ما لا يليق به فهو معنى (قد مضى زمانه) بظهور نبيّ (القراءة المعاصرة) الناسخة لما قبلها؟؟؟؟!!!!! فواغوثاه..

وقال في الصفحة ٢٢٦:

[وبعد ذلك يبدأ النمو والتكاثر الخلوي وتشكل الأعضاء المختلفة وتشعبها في المضغة، وأصل المماضغة في اللسان العربي هو من: “ماضغت فلاناً مماضغة: جاددته القتال والخصومة” “الزمخشري-أساس البلاغة” أي بعد العلقة تبدأ المماضغة وهي تجدد مستمر للقتال “الصراع” والخصومة بين العنصرين المكونين للمضغة نفسها وهما العنصر المُخلَّق والعنصر غير المُخلَّق].. إلى أن يقول: [وهذا يؤدي إلى صراع المتناقضات الداخلي في الشيء نفسه، أي أن هذا الصراع يؤدي إلى نمو المضغة وتطورها وتحولها إلى جنين كامل.]

فهل هناك تحريف وتضليل وتخليط أكثر من هذا؟.. لقد استخدم منهجه الذي شرحته في مقالي السابق (شحروريات ٥) بأن يبحث في المعاجم عن معنى له صلة ولو كانت واهية بالكلمة التي يريد تفسيرها لتوافق معنى في ذهنه يريده لها.. فلمّا أراد أن يفسر (المضغة) الواردة في القرآن.. راح يبحث ذلك البحث حتى وجد كلمة (المماضغة) التي استخدمت استخداماً مجازياً في القتال مشتقة من الفعل (مضغ) فجعل هذا الاستخدام المجازي النادر هو المراد من كلمة (المضغة) ليجعل منها تصديقاً للفلسفة المادية الجدلية في صراع الأضداد.. مع أنّ معاجم اللغة والتفاسير كلّها مجمعةٌ على أنّ معنى (المضغة) هو القطعة الصغيرة من اللحم على قدر ما يُمضَغ.. وفي هذه الكلمة الواحدة يكمن إعجاز بديع في وصف الجنين في هذه المرحلة إذ يكون حجمُه وشكلُه كهذه القطعة الممضوغة من اللحم..

فانظر إلى أية هوّة سحيقة يذهب بنا رسول الديالكتيك، والله المستعان..

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين