سير الأمم بين الأصالة والتجديد

 

لو أن استمساك المسلمين بدينهم ضرب من التقليد الجهول أو التعصب الذميم لكنت أول الناقمين عليه والمحاربين له، ولكن المسلمين المتشبثين بدينهم في وجه ضغوط هائلة ومكايد ظاهرة وباطنة يفعلون ذلك عن وعي سليم واقتناع كريم...

ولو أن دعاة التحلل ونبذ الماضي أو التطور والانطلاق مع المستقبل كما يقولون ـ يؤثرون هذه الوجهة بعد مقارنة ودراسة، وحوار مفتوح، ونقاش نزيه، لأكننا لهم شيئاً من الحرمة، وعذرناهم عندما يخالفوننا في رأي!!

ولكن هؤلاء يريدون بالختل حيتاً، وبالعصا حيتاً آخر، أن يصرفوا الجماهير عن غايتها، ويفتنوها عن عقيدتها، فإذا عز عليهم بلوغ مآربهم وجدت أعداء الرأي الحر يصفون غيرهم بالجمود! ووجدت أذناب التيارات الدخيلة يرمون سواهم بالتقليد! ووجدت عملاء النحل الفاسدة قديمة كانت أو محدثة يتهمون رجال الإسلام بالتخلف !!

ومع أن الإسلام منذ بدأ إلى يوم الناس هذا، دعوة إلى الحياة والابتكار، وإلى الفكر الذي والنشاط الموصول، فقد انقلبت صورته في أذهان هؤلاء، وأصبح وحده، دون سائر الملل والمذاهب سبب التوقف، وأصبح دعاته حصن الرجعية، وآفة المجتمع، وغير ذلك من النعوت التي يخترعها سماسرة الغزو الثقافي.

لقد تقدمت اليابان منذ أكثر من قرن، ولم يجد رجالها حرجاً من الانتفاع بالعلم العصري في مجاليه النظري والتطبيقي دون أن يعلنوا حرباً على ماضيهم، ودون أن يشتبكوا مع الشعب في حرب ضرس ليصرفوه عن ديانته الوثنية.

وتقدمت الولايات المتحدة في ميدان الارتقاء العام مع حرصها البالغ على حماية شتى المذاهب الكنسية، بل على نشرها هنا وهناك!!

ولقد قرأت وصفاً لتكفين الرئيس كنيدي بعد مقتله نشرته مجلة المختار في يناير 1964 وهو وصف ينضح بمكانة النصرانية وتقاليدها واطباق الرسميين والشعبيين على احترامها، جاءت في هذه الوصف المذكور هذه العبارة: في الساعة الثانية عشرة والدقيقة السابعة والخمسين بعد الظهر أي بعد سبع وعشرين دقيقة من اغتيال كنيدي استدعى اثنان من القسس الكاثوليك في دالاس هما الأب أوسكار هوير، والأب تومسون جمس ليكونا إلى جوار الرئيس...

(وسحب الأب هوير الغطاء عن و جه الرئيس ثم غمس سبابته في الزيت المقدس ورسم علامة صليب صغيرة على جبهة كنيدي وقال باللاتينية: (إنني أغفر لك كل لوم وخطايا باسم الأب والابن والروح القدس آمين!! وإذا كنت حياً فليغفر الله بهذا الزيت المقدس كل خطاياك)!!.

هذه التقاليد المسيحية في أمريكا لم تعلن عليها حرب شعواء حتى تستطيع الشعوب التقدم، وتساير موكب الزمن الزاحف، كما يهرف بيننا بعض من لا وزن لهم من حملة الأقلام المرموقة!!لقد بقيت هذه التقاليد وحدها، ومضى الأمريكيون في طريهم يغزون الفضاء حيناً ويمدون بعثات التبشير بالعون المادي والأدبي حيناً آخر.

ولنترك اليابان والولايات المتحدة ولننظر إلى إسرائيل، عدونا اللدود! إن قيام هذه الدولة على الدين حقيقة أوضح من فلق الصبح.

والألوف المؤلفة من اليهود الذين يقيمون في أمريكا يمدونها بما في طاقتهم من جهد لتنهض وترسخ.

وهم يدفعون السياسة الأمريكية دفعاً إلى هذا المجرى المكشوف مستجيبين بذلك لنداء الأخوة الدينية اليهودية، ومستغلين العداء التاريخي نحو الإسلام وأمته من مواريث الصليبية القديمة.

ومع هذه الحقائق الملموسة، فإن العصابة المتاجرة بالقلم في بلادنا تنكر أن يكون للدين أثر في الجبهة المعادية لنا لماذا؟!!

حتى تخفت الأصوات التي تطلب إحياء الإسلام بين العرب، حتى تكون الحرب ذات طابع ديني هناك، وذات طابع مدني هنا!!

إن تمويت الإسلام هدف مقصود لذاته، ولو كان في ضياعه ضياع العرب وفشل قضاياهم وتمزق شملهم واضمحلال أمرهم إلى الأبد!!

وأنا أعلم كما يعلم غير أن هناك يهوداً لا يتجاوبون مع إسرائيل، فما دلالة هذا؟ هل إذا كره بعض الانجليز الاستعمار وصفنا الشعب الانجليزي بأنه بريء من الاستعمار، وأنه لا يحمل تبعات حروبه الدنسة في أفريقية وآسيا وغيرهما بضعة قرون؟!

إننا لم نصف كل يهودي على ظهر الأرض بأنه معتد على العرب، ولكننا نصف الجمهرة الساحقة من اليود بأنها من وراء قيام إسرائيل على أنقاضنا بدافع ديني أعلنه ساستهم وقادتهم، فلم المماراة في هذه الحقائق الصلبة؟

بيد أن الذين يبغون إبعاد الإسلام عن ميدان الكفاح، بل إبعاده عن أسباب الحياة، أو إبعاد أسباب الحياة عنه يمضون في طريقهم مكابرين معاندين.

كيف تستطيع شعوبنا أن توفق بين الأصالة وهي التاريخ، وبين التحرير وهو المستقبل قلنا ـ نحن المؤمنين من أبناء هذا الوادي ـ أن هذه عبارة تدعو إلى التفاؤل، إنما توحي بأن نبني على قواعدنا، وأن تندفع مع تيارنا، وأن نتجاوب مع طبائعنا العربية المسلمة.

فالأصالة في حياة أمة هي صورتها الروحية، وصبغتها الفكرية والخلقية، وملكاتها في توجيه الحياة وفق عقيدتها وشريعتها.

وإذا كان لنا نحن العرب تاريخ لامع وحضارة مشهودة فمرد ذلك أجمع إلى الإسلام وحده.

وتستطيع الأمة الذكية أن توائم بين جذورها في الماضي وحركتها إلى المستقبل وإذا سهل ذلك على أمم ذات تواريخ تافهة أو أديان شائعة فكيف يصعب على أمم أساسها الإسلام باعث الحياة في الرفات الهامد، وموقد الشرر في الحجر الجامد؟؟

طلع علينا المستشرق جاك بيرك، يفسر فيه الأصالة تفسيراً مقلوباً، و يردها إلى عناصر مادية وآلية، ويرتاب في قيمة الأخلاقيات والأدبيات والجماليات من حيث هي المعلم الأول للأصالة.

وقال تحت عنوان: (ليست الأصالة هي العودة إلى الماضي: لقد ولى إلى الأبد بمحاسنة وعيوبه كل ما سبق الثورة الصناعية المعاصرة التي اجتاحت وما تزال تجتاح كل أنحاء العالم وكل صفات الحياة الإنسانية، فردية كانت أم جماعية... والأصالة اليوم أن تكشف ذواتنا وأن نهيئها للانسجام مع عالم هذه الثورة الصناعية المكتسحة، وما هو أبعد منها)

ولا يحتاج المرء إلى جهد قليل أو كثير ليشعر بأن القصد من هذا الحديث منع العرب من التفكير في دينهم، والامتداد مع أصولهم السماوية ومثلهم النفسية والاجتماعية.

إن ألوف الحيل تختلق اختلاقاً لجعل أمتنا تحيا بعيدة عن ينابيعها الروحية حتى لو أحرقها الجفاف وأضنتها الحيرة، بل حتى لو تهددتها الهزيمة وأحدث بها العدو، فلحساب من هذا كله؟؟.

أما الثورة الصناعية التي أشار إليها هذا المستشرق فهي حصيلة الارتقاء العلمي الذي ساهمت فيه شتى الأجناس والحضارات، والأمم الكبرى تستغل تفوقها الصناعي في دعم فلسفاتها الفكرية ومذاهبها الاجتماعية.

أي أن هذا التقدم الصناعي وسيلة لخدمة الأهداف الإنسانية للأمم، كما تراها كل أمة فالجهاز الصناعي الهائل في أمريكا يخدم المنهج الرأسمالي الذي آثره أصحابه، ومثيله في روسيا يخدم المنهج الاشتراكي المضاد فكيف تتحول الوسيلة إلى هدف كما يريد خداعنا هذا المستشرق؟

إن الأصالة ترجع ابتداء إلى أسلوب الحياة الذي نريده لأنفسنا، وهذا الأسلوب لا ينفك عن أركان ديننا واصول حضارتنا وتاريخنا..

وكما يستغل اليهود وغيرهم التفوق العلمي والعملي في إعزاز جانبهم وفرض أنفسهم يجب أن يعمل العرب وأن يربطوا ماضيهم بحاضرهم!!

أفهذه مشكلة معقدة ومعادلة صعبة كما يصور بعض الكتاب؟ هل ارتباط كل أمة بدينها سائغ مقبول، أما ارتباطنا بإسلامنا فمشكلة المشاكل؟

إن العودة إلى الماضي في حياتنا، حن العرب معناها استيفاء الرسالة التي تملأ القلوب الفارغة وتنظم الصفوف المعوجة وتقمع الأهواء الفاسدة، وتجعل البشر عباداً لله صالحين وخلفاء على أرض مكرمين...

إن العودة إلى الماضي تعني: أن نستصحب الوحي الإلهي في سيرنا ونستبقي هداه على طريقنا، أفذلك ما  تحرج به صدور وتغتاظ منه أقوام؟ لماذا ارتفع هذا الحرج في المجالات العالمية لما عاد اليهود إلى ماضيهم وأقاموا باسمه دولتهم؟

لماذا لم تتجه جهود الغرب التبشيرية إلى اليابان الوثنية، واستماتت في ضرب الإسلام وحده والتنكيل بأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟

سيقول سماسرة الغزو الاستعماري للعرب: إن العودة إلى الماضي تعني أن نعود إلى ركوب الإبل... ونتجاوز هذا الهزل لنقول لأصحابه: بل نريد من هذه العودة أن تهذب حيوانيتكم التي طفحت وجعلتنا أضحوكة الناس.

ففي هذه الأيام واليهود جاثمون على صدرنا ممسكون بخناقنا تنشر بعض صحفنا هذا الاعلان عن رواية جنسية تعرض في سينمات القاهرة، فتصف كيف سرقت عاهرة رجلاً من بيته وكيف،،، تضمه إلى صدرها فناناً تنقصه حرارة القبلة وتشتهي هي الأخرى طعم الحب، وتبدأ بين الاثنين قصة، قصة الفنان ا لمتزوج من امرأة تبدلت عواطفها، وقصة الفتاة الصغيرة الناضجة التي تشتهي ضياع المتعة واللذة.

وعلى الشاعرية على النبضة القصيرة والطويلة والعريضة تروي الأيام أحلى وأطعم قصة عشق الخ.

هذا هو أسلوب الحياة المتجددة التي ننسلخ بها عن الماضي، ونواجه به عدوان الاستعمار والصهيونية على بلادنا.

هذا هو الأسلوب الذي يستأجر له مستشرقون يفسرون الأصالة بأنها جملة من العناصر المادية.

وعلى هذا النحو تعمل السمسرة الأدبية في إضاعة الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الثامن السنة الثالثة والعشرون، ربيع الثاني 1389، يونية 1969

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين