سياسة في ظلال فتح مكّة من عبقرية خير البشر

 

صبغ الرسول صلى الله عليه وسلم مجمل الإجراءات التي اتخذها عقب فتح مكّة بمسحة الجمال رغم أنّ أغلبها كان قرارات سياسية لكّنه كساها أحسن الحُلل من أجل أبعادها النفسية والمعنوية فقد جمع في تناغم بديع بين العمل السياسي والمَنحَى الأخلاقي حتى ظنّ الناس أنّ تصرّفه ذاك كان أخلاقيّا بحتاً وقد تمحورت تلك الإجراءات حول الأمن والعفو كما تبيّن هذه الإطلالة السريعة:

 

مرحمة لا ملحمة

رغم أنّ مكّة قد فُتحت عنوة من خلال عمل عسكري كثيف أدّى إلى استسلام أهلها وجنّب الطرفين القتال إلاّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حرص على بعث رسائل طمأنة للسكان وجنح إلى إجراءات رمزية تُذهب عنهم الخوف وتؤكّد التزام المسلمين مبادىء العفو والمسامحة وعدم التفكير في الانتقام بأيّ شكل لذلك عندما بلغتهُ مقولة سيد النصار سعد بن عبادة رضي الله عنه لأبي سفيان (اليوم يوم الملحمة _ أي الثأر من قريش - ) نزع منه الراية ودفعها إلى ابنه وقال (اليوم يوم المرحمة) ووفّى بذلك _ صلى الله عليه وسلم _ فلم يبادر الصفّ الإسلامي بحركة انتقامية رغم ما شاب علاقة الطرفين من الظغائن مدّة طويلة وما صدر من ظلم قرشيّ بيّن بحقّ المهاجرين والأنصار وهذا قرار سياسي واضح يحذوه الخُلق الكريم ولو مال الرسول صلى الله عيه وسلم إلى المقاضاة وإنزال العقاب بمجرمي مكّة وطغاتها لكان ذلك من حقّه كما تنصّ كلّ الشرائع وقد فعل مثل ذلك مع بني قريظة من قبل لكنّ مكّة ليست حيًّا مغمورًا بل هي أمّ القرى والعاصمة المقدّسة ورمز التوحيد والعبودية وما يقتضي ذلك من سياسة خاصّة تُؤثر الصفح على المعاملة بالمثل.

 

أمن على كلّ الأصعدة

في إطار إجراءات زرع الثقة في نفوس المكّيًين وطمأنتهم على أرواحهم وممتلكاتهم وأهليهم أصدر النبي صلى الله عليه وسلم قرارًا مفاده أنّ (من دخل بيتَه فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فالقائد يأمر بإخلاء الطرقات ولزوم البيوت للتأكّد من عدم وجود مقاومة ولا أعمال عدائية من أهل مكّة ويؤمّن لهم منازلهم والمسجد الحرام وبيت زعيمهم والإشارة إلى دار أبي سفيان فيها رمزية واضحة وأدب جمّ وإجراء حصيف لاستمالة الزعيم المنهزم المعتدّ بنفسه وتبليغه رسالة احترام وتبجيل يقرأُها هو وأتباعه سواء فالرسول عليه الصلاة والسلام يُحسن معاملة من كان رأس الشرك والعدوان طيلة سنين وقد فقدَ للتوّ سلطانَه وأحلاَمه وكان يُمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحبسه للمساءلة وأن يُعلن انتهاء قيادته لمكّة المكرّمة لكنّه _ مرة أخرى _ آثر أخلاق السياسي الرباني المحنّك الذي تتلاءم جميع خطواته مع رسالة الأمن والأخلاق التي يحملها ويعمل على تبليغها.

 

عفوٌ عامٌ

لا شكّ أنّ أهل مكة كانوا يتوقّعون أن يُحاسبهم الفاتحون على جرائمهم في حقّ الإسلام والمسلمين وأن يُنزلوا العقاب برؤسائهم وربما بالقرية كلّها وهذا توجّس وارد رغم معرفتهم بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام الرفيعة وتعاليم الإسلام في معاملة الخصوم المنهزمين وكانوا ينتظرون الحكم النبوي وهم مجتمعون عن آخرهم مطأطئي الرؤوس فلم يزد عن قوله (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهو عفو عامّ لا يذَر جريمة ولا فعلاً شنيعًا إلاّ أتى عليه بالتجاوز الكريم تطمينا للناس وتأليفًا للقلوب ورجاءً في التحاق أعداء الأمس بموكب الدعوة إلى الله لتوطيد أركان الدين والسير به في جَنَبات الأرض فهذا أفضل من الثأر الذي يوغر الصدور ويُلغّم العلاقات الاجتماعية ويُلقي بظلال السواد على المستقبل.

 

عفوٌ رغم صدور حكم الإعدام 

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم جماعة من القرَشيّين وأمر من يلقاهم من المسلمين بقتلهم حتى ولو كانوا متعلّقين بأستار الكعبة فهو _ هنا _ يتصرّف بحكم القضاء وقد أصدر حكم الإعدام في مجموعة تتكوّن من أقلّ من عشرة رجال ونساء وأمر بتنفيذه حتى في حال التجائهم إلى الكعبة المشرّفة وحَرَمها المَصون لأنّ مكّة قد أُحلّت له _ صلى الله عليه وسلم _ ساعة من نهار يوم فتحها فماذا حدث؟ أمّا بعض هؤلاء المجرمين العتاة الذين استحقوا إهدار الدم بسبب مبالغتهم في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين ومحاربة الإسلام فقد جرى عليهم القلم وقُتلوا بعد الفتح على يد بعض المسلمين لكنّ العجب في بقيّتهم فقد تمكّنوا بشكل أو بآخر من الحصول على الأمان ووصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآعلنوا التوبة بين يديه فعفا عنهم من ذلك مثلا:

- عبد الله بن أبي سرح: جاء به عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشفع فيه فحقن دمه وقَبل اسمه.

- عكرمة بن أبي جهل: فرّ من مكّة بعد فتحها فاستأمنت له امرأته فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فجاءه منيبًا وأسلم وقد حَسُن إسلامه وأصبح من أبطال الإسلام.

- هبار بن الأسود: هرب بعد الفتح ثمّ رجع فأسلم ونجا من القتل.

- ثلاث نساء من رؤوس الإجرام في حقّ المسلمين: قُتلت إحداهنّ وطلبت الأخريان الأمان فأمّنهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودخلتا الإسلام.

- كعب بن زهير: تسلّل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متنكّرا حتى إذا جلس بين يديه أنشد قصيدته العصماء في مدحه عليه الصلاة والسلام وأسلم فقيل إن الرسول ألبسه بردتَه فسُمّيت بها القصيدة.

هكذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم العهد المكي الجديد بإنفاذ حقّه الشرعي في العفو على المحكوم عليهم بالإعدام فكانت سياسة نبوية حكيمة عزّزت أجواء المسامحة والتواصل وطيّ صفحة الأحقاد والكريم إذا وعد وفى أمّا إذا توعّد فقد يعفو فيزيدُه ذلك رفعةً.

 

هجرة لا انتكاسة فيها

من أهمّ القرارات التي اتّخذها النبي صلى الله عليه وسلم _ وجميع قراراته مهمّة _ منعُ المهاجرين من استرجاع أيّ من أموالهم العقارية والمنقولة التي استولى عليها المشركون بعد هجرة الصحابة إلى المدينة المنوّرة فكان الرجل _ بعد الفتح - يمرّ على بيته وقد سكنه غيرُه فلا ينازعه فيه وما طلب واحد منهم أبدًا استرداد ممتلكاته من قُرَشيّ أسلم يوم الفتح أو لم يُسلم ولو أَذن الرسول لأصحابه أن يفتكّوا حقوقهم المسلوبة لكان ذلك حقّا لا غُبار عليه وعدلاً لا يُجادل فيه أحد لكنّ قصد _ صلى الله عليه وسلم _ تحقيق مقصدين معًا أخلاقي وسياسي فقد جعلهم يُؤثرون الآخرة على الدنيا ولا يتراجعون عن هجرتهم الكلية إلى الله والثواب أحبّ إليهم من عَرَض الدنيا وهذا أوان التمسّك بالإخلاص والنية الصافية والصدق في التعامل مع الله أمّا الجانب السياسي فهو تأليف قلوب أهل مكّة بعدم مزاحمتهم في المجال المادّي الذي يُثير النفوس غير المهذّبة بالدين والتربية الإيمانية وطيّ صفحة الماضي نهائيًا لتُفتَح صفحة جديدة تتلخّص في الإقبال على رسالة الإسلام وأخلاقه وتعاليمه في ظلّ الأخوّة المُستأنَفَة والمحبّة الناشئة ولا شكّ أن المكّيّين قد تأثّروا بمشاهد العفو والمسامحة وعدم فتح ملفّات الماضي ولا المطالبة باسترجاع الأموال المسلوبة.

 

وصمدت مكّة

كان لتصرّفات الرسول عليه الصلاة والسلام الحكيمة وَقعُها الآني والمستقبلي على العاصمة المقدّسة فقد حسُن إسلام صناديدها وانتقلوا إلى نصرة الإسلام بقوّة وكانوا من أركانه بعد ذلك يُكفّرون عن ماضيهم المنحرف ويسارعون في أنواع البرّ والحُسنى والجهاد والبذل حتى إذا أطلّت فتنة الردّة وانتشرت بين القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصب لهيبُها مكة المكرّمة وقد ذكروا أنّ سهيل بن عمرو _ الذي فاوض المسلمين باسم المشركين في الحديبية _ قام في أهل مكة خطيبا فقال وأوجز (يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأوّل من يرتدّ) فثبتوا ولم يُروَ أنّ أحدهم قد ارتدّ.

وبعد: هذه دروس سياسية بحُلّة أخلاقية جميلة ما زال يفوح أريجُها ويستنهض دعاة الإسلام وحكّام المسلمين الأتقياء يجب أن تكون جزءا من التربية الإيمانية والتكوين السياسي لأنصار المشروع الإسلامي لاستقبال الزمن الإسلامي الجديد الذي تبشّر به ثورات الربيع العربي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين