سورة لقمان 5

الشيخ إبراهيم الجبالي

قال الله تعالى:[هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] {لقمان:12}.
من استجلى الآية السابقة:[خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ] {لقمان:10}. لم يتردد لحظة في أن ينطلق لسانه قائلاً: هذا خلق الله. فلا يكاد امرؤ عنده مسكة من فطنة وعقل، يسرح نظره في السماء وكواكبها، والأرض وعوالمها، وما بينهما من ماء ينزل من السماء فيختلط بأجزاء الأرض، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج كريم إلا ويقر في نفسه، ويجزم عقله لأول وهلة في النظر أن هذه آثار صدرت عن قوة غيبية لا تحيط بها مداركه وهي تحيط به، ولا يكتنهها عقله وهي مهيمنة عليه، ومهما جالت به الوساوس، ولعبت به النزعات، فلا مناص له أن يعترف من قرارة قلبه فيما بينه وبين نفسه أن هذه آثار شاهدة بوجود مبدعها وجوداً واجباً، وأنه هو المسيطر والمهيمن، وأنه العليم الحكيم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الله رب العالمين:[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ] {لقمان:25}.[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ] {الزُّخرف:87}. وما كان انحراف النفوس الضالة عن الإيمان بالله إلا تخلصاً من بطش الله، وتملصاً من تكاليف الله، وتلمساً للإطلاق الذي تبغي به نيل مشتهياتها وعدم القيد من حريتها، هذا أمر فطري تذعن له النفوس بأصل فطرتها، ولا يحيد عنه إلا نفس انطفأ، ورها، وعميت بصيرتها، يشرح ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) وقوله تعالى:[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] {الرُّوم:30}.
من هذا ترى أن قوله تعالى:[هَذَا خَلْقُ اللهِ] {لقمان:11}. موقعه بما قبله موقع النتيجة من الدليل، فإذا ضم إليه قوله:[ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ].وجدته متمماً للمراد من الآية الكريمة وهو قطر دابر الشرك ليكمل التوحيد جملة كاملة بالاعتراف بوجود الباري الخالق، ونفي أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في استحقاق العبادة، وقوله:فأروني.بعدما ساق لهم الأدلة كلها محسوسة مرئية ناطقة بمدلولها أفصح نطق، وأوضح دلالة من تسجيل الخزي والتبكيت والإفحام بصورة لا تدع لهم مجالاً للخلوص، ألا ترى كيف أعرض عنهم، وصرف الخطاب لغيرهم، واعتبرهم كأنهم لا شيء ولا وجود لهم، ولا يستحقون أن يوجه إليه خطاب بعد أن وصلوا إلى هذه الدرجة من الغباء، فقال معبراً عنهم بأسلوب الغيبة:[ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ].
والإشارة في هذا لما سبق من خلق السموات بغير عمد وما بعده، وخلق الله بمعنى مخلوقه، وكان التعبير عن المخلوق بلفظ الخلق لأنه يتجلى فيه الخلق والإيجاد أظهر تجل وأكمله فما كان منها شيء له وجود مالا بمادته ولا بصورته، وإنما هي كلها برمتها ناشئة عن خلقه وتكوينه فهي خلق يتجلى فيها الخلق بأكمل معانيه.وأروني أمر من أرى يرى الرباعي، وثلاثيه رأى البصرية لأنها أدخل في التبكيت، وكأنه يقال لهم: قد ضعفت عقولكم، وانحطت عن أن تجول في عالم العقليات، فها أنذا أدخل بكم في باب المحسوسات، وقد أريتكم مالا مناص لكم عن أن تعترفوا فيه أنه خلق الله، فأروني أنتم ماذا خلق غيره حتى أشركتموه معه في العبادة؟ ويصح أن تكون من رأي العلمية، ويكون من باب توسيع المجال أمامهم، فإذا وجدوا ما يحس عرضوه، وإذا وجدوا ما يقبله العقل، ولو غير محسوس، أرشدوا إليه. وقوله: ماذا خلق، للنحاة فيها وجوه فمنهم من يقول إن ما استفهامية، وذا اسم موصول خبرها أي ما الذي خلقه الذين من دونه، والجملة معلق عنها الفعل وهو أروني. وهذا يتمشى على أن أرى علمية. ومنهم من يقول: إن ماذا كلها اسم استفهامي مفعول مقدم للفظ خلق، والمعنى على كلا الوجهين: أروني جواب هذا الاستفهام. وبعضهم يقول: إن ماذا كلها اسم موصول مفعول لأروني، وجملة خلق صلته، والتعبير عن الشركاء المزعومين بالذين، وهي للعقلاء، لأنهم لما عبدوهم وألهوهم منزلة العقلاء بل فوق العقلاء، فالكلام من باب مجاراة الخصم، وإرخاء العنان، حتى يشعر من نفسه بالخيبة، وقوله: من دونه، أصل كلمة دون للمكان الداني من الشيء، أي: القريب منه، استعملت بمعنى المغايرة مطلقاً، ولعل في اختيارها في هذا المقام زيادة في التبكيت لهم، فإن الشركاء الذين يزعمونهم أدنى من الخالق هم أحق بأن يروا، وترى آثارهم، فكلما كان الشيء أقرب كانت رؤيته ورؤية آثاره أجلى وأوضح.
والمراد بالظالمين هم أولئك المردود عليهم، وهم مغرقون في الظلم من عدة نواح: فقد ظلموا الحقائق، وأعطوا من لا يستحق شيئاً، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، أعظم منزلة ومكانة، وظلموا عقولهم إذ أرغموها على عقائد لا تملك عليها حجة ولا بينة، وظلموا أنفسهم بالتعريض لعذاب المنتقم الجبار، وظلموا أنبياءهم بالمعاندة والمكابرة، وظلموا الناس المستضعفين بصدهم عن سبيل الله، وظلموا من يماثلهم أو يعظم عليهم بنفخ كير الحمية الجاهلية وذكر الآباء ووجوب التمسك بما كانوا عليه، تمكيناً لعزتهم، وصوناً لهم عن التشهير بأنهم كانوا ضالين، فهم الظالمون و هم الظالمون، ولا ظلم إلا ظلمهم، فلا بدع أن يعبر عنهم بهذا العنوان. وقوله: في ضلال، يفهم أنهم قد أحاط بهم الضلال، واستحوذ عليهم واكتنفهم اكتناف الظرف لمظروفه،فلا ينتظر لهم منه فكاك، نفهم هذا من لفظ في والعدول عن أن يقال مثلاً: بل هم ضالون، والضلال الحيرة، فما أطرف وصفه بلفظ مبين، وهو وإن كان بمعنى بيِّن فإن اختيار كلمة مبين للإشارة إلى أنه قد بلغ من الظهور في ذاته حداً يجعله كأنه مبيَّن لغيره.
[وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ].قد يخفى عليك وجه اتصال هذه الآية بما سبقها، ولكنك إذا أعطيتها قسطاً من التأمل أدركت أن الثانية من الأولى بسبب متين، ذاك أن الآية الأولى سبقت للتدليل على وحدانيته تعالى وانفراده بوجوب الوجود واستحقاق العبادة، وأن ذلك من الوضوح وظهور الدلائل بمنزلة لا تسمح لنفس أن تتردد فيه، والآية الثانية لبيان أن من أهل الفطر السليمة من عقل ذلك، وهداه نظره السليم وعقله الحكيم إلى الاعتراف بوحدانية العزيز الحكيم، بل الشكر له على ما غمره به من نِعم لا يد فيها لغيره، أي: فالذي أدعوكم إليه ليس بدعاً من الأمر بل قبلكم من اهتدى إليه بفطرته، وعمل على مقتضاه بحكمته وهذا يوافق قول أكثر المفسرين إن لقمان لم يكن نبياً، وإنما كان حكيماً، والحكمة وإن تعددت الأقوال في تفسيرها بالمعنى الاصطلاحي العلمي، فإن المراد منها يكاد يكون جلياً وهو الاعتدال في التفكير والعمل، أو إتقان الأشياء علماً وعملاً فيكون علمه تابعاً لمقتضى التفكير الصحيح الخالي عن الهوى وعن التطوح في الخيال، أو التقصير في الاستدلال، أو التعلق بالمحال، ويكون عمله على وفق ما يظهر للعقل الصحيح أنه الحسن الذي لا يشوبه قبح سواء أوافق هواه أم خالفه، وفسرها بعضهم بأنها كمال علمي للنفس الإنسانية يحصل لها من اقتباس العلوم النظرية بالفكر الصحيح، وتسمى الحكمة العلمية، وعملي يحصر لها من اكتساب الملكة التامة على التزام الأفعال الفاضلة على قدر الطاقة البشرية.
ولقد كان لقمان معروفاً عند العرب بحكمته يدور على ألسنتهم كثير من كلماته، فكان اختياره لهم لأن إذعانهم بفضله أقرب. وينسب إليه من كلام الحكم شيء كثير نقتطف منه طرفاً لطرافته.
فمن حكمه: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزَّ وجل حافظ، من أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزاً، إياك والدين فإنه همٌّ بالليل وذلٌ بالنهار. أرج الله رجاء لا يجرئك على معصيته، وخفه خوفاً لا يوئسك من رحمته، لا تكن حلواً فتبلع ولا مرا فتلفظ. لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء. امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
ولقد قص علينا القرآن الكريم في الآيات الآتية ما هو أبلغ من هذا وأروع، وأعظم منه وأنفع، فلله الحمد في الأولى والآخرة.
وقوله عزَّ وجل:[وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ].
التعبير بلفظ آتينا لإشعارهم، حتى في سياق الجدل، بأنه عزَّ وجل هو المتصرف في الكون وحده لا شريك له، فكل شيء بأمر منه، ولا يمكنهم التعلل بمثل أن الله لم يؤتنا ما آتاه.
وأمثال ذلك من الترهات، فما كانوا يستطيعون أن يجحدوا ما وهبهم الله من عقل واختيار، وأنهم لو وجهوا عقولهم نحو الهدى الذي يدعون غليهه لتعرضوا لفيض فضله ورحمته، وقوله أن اشكر لله، الشكر لب الحكمة وروحها، به تبتدي وإليه تنتهي، فما كان شيء أجدر بتنبيه العقول ولعواطف العبادة من الشعور بالنعمة التي أفاضها الله عليه وأنها توجب عليه شكر المنعم، ومهما بذل من جهد وعمل من عمل يقربه إلى ربه ويكسبه رضاه فهو سائر في طريق شكره، والشكر مقابلة النعمة بما يستحقه المنعم من ثناء وتعظيم، وإذا كان كل ما لدى العبد من نعمة فهو من الله حتى نفسه وحتى قواه التي بها يشكر وتوفيقه للشكر، فهو مهما بذل في سبيل الشكر مقصر عن الشكر، وفي شعوره بعجزه عن الشكر شكر. وهذه نعمة أخرى تستحق الشكر، ولله در القائل:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة=على له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله=وإن طالت الآجال واتسع العمر
وقد عرفوا الشكر بأنه بذل العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، والذي خلق لأجله ما بيَّنته الآية الكريمة: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}.وهي مرتبة قلما تتيسر إلا لمن اصطفاه الله من عباده وأمده بتوفيه، ولذا قال عزَّ وجل: [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] {سبأ:13} . فإن كلمة جميع لا تدع شيئاً من النعم إلا وهو مطالب بالشكر من أجله:[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {النحل:18}.وقوله: [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] {لقمان:12} . جملة مستأنفة لبيان أن الشكر المطلوب وإن كان مما تقتضيه الأريحية والكمال النفساني، فإنه يقتضيه أمر آخر لا يتوقف على أريحية ولا طيب عنصر، وهو أن ثمرته عائدة على الشاكر، فهو المنتفع بالشكر، وأجره ونوابه عائد عليه، وأما المشكور فهو أعلى وأسمى من أن ينتفع بشكر الشاكرين، أو يتضرر بكفر الكافرين فمن كفر فإن الله غني عن شكره غير محتاج إلى شيء منه لا في جلب نفع ولا في دفع ضر وهو حميد في ذاته تثني عليه آثاره وتنطلق بكماله أنواره، فإذا سكتت السنة من أنعم عليهم فقد نطقت ألسن نعمائه وبرزت دلائل آلائه سبحانه، وهذا كما قيل:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله=ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
واختيار لفظ المضارع في يشكر ولفظ الماضي في كفر لأن صيغة المضارع تدل على تجدد الفعل آناً فآنا، وهذا شأن الشكر فإنه يتجدد بتجدد النعم وهي لا تفتأ تتجدد، وأما الكفر فهو إعراض مستمر وجحود ساكن ثابت، فهو من باب الإعدام التي لا تجدد فيها وإنما هي ملازمة لحالة واحدة حاصلة.
وقوله في جواب الشرط الثاني: فإن الله غني حميد، هو في اصطلاح علماء العربية دليل الجواب وكأن الجواب هكذا: ومن كفر عاد ضرر كفره على نفسه ولا يلحق الله من كفره شيء فإن الله غني حميد.
نسأله جلت قدرته أن يوفقنا لشكره وطاعة أمره، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه سميع كريم رؤوف رحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الثامن، ربيع الثاني 1356هـ، الجزء الرابع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين