سورة الشعراء

وبمناسبة الحديث عن الفرقان، والشكوى من أنه اتخذ مهجورًا، جاءت سورة الشعراء، وكأنما تشير إلى فنون القول التي تتخذ أداة في معركة الدعوة، بين أهل الحق وخصومهم، أو تتخذ لهوًا يشغل عن ذكر الله، أو تكون باطلا ينأى عن السداد، وناسبه ترداد الآيتين في ختام القصص: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم)، والآيات في خطاب الأنبياء لأقوامهم: (ألا تتقون. إني لكم رسول أمين...) إلخ، إذ يكرر الناس القول، ويأخذ بعضهم من بعض، ويتمالأ الفريق على القالة يلهج بها، وعلى الحجة يرددها، وكذلك يفعل الشعراء، على قال الشاعر:

ما أُرانا نقول إلا مُعارًا        أو مُعادًا من قولنا مكرورا

وفي أوائل السورة نرى مشهد المحاورة بين فرعون وموسى طويلًا مفصلًا، وبحضور الناس، ويخاطَبون ويستشهَدون، ولما دعي السحرة لمباراة موسى جرى الإعداد النفسي والإعلامي لهذا التحدي: (وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون. لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)، بأسلوب الاستمالة، واستباق نتيجة المناظرة، ولما خرج موسى وقومه أيضًا تجد حملة التعبئة النفسية: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون. وإنهم لنا لغائظون. وإنا لجميع حذرون).

وفي قصة إبراهيم تجد ثناءه الطويل على ربه، وشرحه لمعتقده وموقفه: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون..) الآيات إلى قوله: (يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم)، وهو نموذج لقول المؤمنين الذاكرين الله كثيرًا، المثنين عليه، الداعين ربهم خوفًا وطمعًا، وهو الكلم الطيب إلى الله يصعد، والعمل الصالح يرفعه.

وفي قصص بقية الأنبياء المذكورين في السورة تجد هذا الجدل بين الأقوام وأنبيائهم، وذكر فيها القول وجوابه بما يناسب خصوصية كل قوم، مع صيغة الدعوة المكررة للأنبياء، والختام المعهود للقصة.

وفي خاتمة السورة قضيتان: الأولى القرآن وصفته وموقف المعاندين منه، والأخرى: الشعراء واستخدامهم في استمالة العامة، على أنه قد استثنى منهم (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا ن بعد ظلموا).

وبهذه المناسبة ذكر أساسًا جديدًا لجمع الأنصار وتأليف الجماعة، بالانتقال من رابطة العشيرة التي تبدأ منها الدعوة، لأنها وَضْع مادي قائم، إلى جماعة المؤمنين المصلِّين الموصوفين بالساجدين، وقد أمر بخفض الجناح لهم لتأليف قلوبهم، والمحافظة على جماعتهم، وقد جمعهم الإيمان والصلاة والدعوة إليها، لا كما يجمع أهل اللهو مزمور الشيطان، واللغو من القول.

وفي مطلع السورة وصف الكتاب بالمبين، وذكر حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية القوم حتى أرهق نفسه، وكان جُهده وجهاده قوليًّا بالدعوة والتلاوة والجدال، وهم معرضون عن الذكر والتذكير، وعن دعاء النبي لهم، وليس كفرهم لقلة الآيات، فالله قادر على إنزال آية تخضع لها أعناقهم، وفي الأرض آيات لهم لو تأملوها، وتفكروا فيها، وفي قصص الأقوام السابقين مع أنبيائهم.

وفي قصة موسى خُصت السورة بذكر انطلاق اللسان، على أنه في سورة طه جاء التعبير بعقدة اللسان، وفي سورة القصص جاء بفصاحة اللسان. وفيها: (فقولا إنا رسول رب العالمين)، وفي سورة طه جاء بالتثنية: (فقولا إنا رسولا ربك)، وذلك لمعنى الوزارة والمؤازرة في سورة طه، ولمعنى التمالؤ على القول الواحد في الخصومة، فكل فريق من المؤمنين والكافرين ينطق بلسان واحد، ويجتمع على خطاب واحد.

وعبر أيضًا في دعوة إبراهيم أن يكون له الذكر الحسن من بعده بقوله: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين). ثم جاء وصفٌ مفصل للقرآن الكريم من قوله: (وإنه لتنزيل رب العالمين) إلى قوله: (وما تنزلت به الشياطين)، وفيها: (بلسان عربي مبين).

وذكر الشياطين في ختام السورة مع ما نفاه من علمهم الغيب كان لاعتقاد العرب أن للشعراء شياطين يوحون إليهم بالقول، وهم حقًّا يتنزلون على كل أفاك أثيم من المتكهنين بالأكاذيب والأباطيل، وأيضًا لأن شياطين الإنس والجن من أعداء الأنبياء كما جاء في سورة الأنعام: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)، فالشياطين يوحون بالقول إلى الشعراء وغيرهم من الغارِّين، لإضلال الأتباع الغاوين المغرورين، وذلك كله في مقابلة كلام الله الذي هو (تنزيلُ ربِّ العالمين)، وما اشتُق منه من كلام الذين يذكرون الله كثيرًا، وهم في جهاد ظالميهم بالسنان واللسان، سواء أكانوا شعراء أم لم يكونوا، وهم على كل حال يعدون القول من أسلحتهم في معركتهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين