سنة حسنة

 

 

 

الشيخ طه محمد الساكت
 
عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه قوم عُراة مُجتابي النِّمار - أو العَباء - متقلِّدي السيوف، عامَّتهم من مُضر، بل كلهم من مضرَ؛ فتمعَّر وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِما رأى بهم من الفاقةِ، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام، ثم صلى، ثم خطب فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1]، إلى آخر الآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، والآية الأخرى التي في آخر الحشر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18]، تصدَّقَ [2] رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشِق تمرة))، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كَفُّه تَعجِز عنها، بل قد عجزت؛ ثم تتابَعَ الناسُ حتى رأيت كَوْمَينِ من طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل كأنه مُذْهَبَة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمِل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء؛ ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمِل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))؛ رواه مسلم[3].
 
المفردات:
مجتابي النمار: النِّمار: جمع نَمِرة، وهي الكساء من الصوف المُخطَّط، والاجتياب من الجوب، وهو القطع، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ [الفجر: 9]؛ أي: نحتوه وقطعوه، والمراد أن هؤلاء القوم لِفاقَتِهم ورقة حالهم لبَسوا أرديتهم، أو عَباءهم (جمع عباءة)، وقد خرقوها في رؤوسهم.
 
و(أو): للشكِّ من المُنذِر بن جرير في أيِّ اللفظين قال أبوه: آلنمار أم العَباء؟ وإذا كان هذا بعض تحرِّيهم في رواية بعضهم عن بعض، فكيف بتحريهم في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم؟
ومضر: من أمهات العرب المُستعربة وأشهرها، وربيعة ومضر مَضرِب المَثَل في كثرة العدد.
 
فتمعَّر.. إلخ: أي تغيَّر وجهُه - صلوات الله عليه - رثاء لهم وحزنًا عليهم.
 
والصاع: كيل معروف عند أهل المدينة، قريبٌ من ربع الكيلة المصرية.
 
والكوم: بفتح الكاف وضمِّها، وكذلك الكومة بالضم: ما كوِّم وجُمِع من طعام أو غيره، ونظيره الصُّبْرة من الطعام، وهي ما جُمِع منه بلا كيل ولا وزن.
 
والمُذْهَبة: القطعة المطليَّة بالذهب، وأذَهب الشيء وذهبه: طلاه بالذهب، وإن كان المعروف في الرواية التخفيف، وضبَطها بعضها ((مُدْهُنة)) بالدال والنون، وهي وعاء الدُّهن، أو الماء المجتمع في الحجر، والتأنيث هنا موافِق لرواية الشيخين في حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا ثم تاب الله عليهم: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ، استنار وجهُه كأنه قطعة قمر"[4].
 
والمراد في كلٍّ بيانُ إشراق وجهه الشريف، وبريق أساريره صفاء ونورًا حين فرَحه بالخير.
 
التعاون على البر، والتعاطف على الخير:
يُعنى الإسلام بالتعاون على البر، والتعاطف في الخير، عنايةً تجعل ممن اتَّبع هداه أمةً واحدة، يَسُرُّ كلَّها ما يَسُرُّ بعضَها، ويُحزِن جميعَها ما يُحِزن فردًا منها، وحسْبُك أنْ جعل المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشد بعضُه بعضًا، وأنْ شبَّه المؤمنين في تراحُمهم وتوادهم وتعاطفهم بالجسد الواحد؛ إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائره بالسهر والحمى.
 
ولقد استجاب المسلمون الأوَّلون لدعوة الإسلام إلى البِر على اختلاف أنواعه، فلم يدَعوا طريقًا من طُرُقه إلا سلكوه، ولا بابًا من أبوابه إلا وَلَجُوه؛ إيثارًا لما عند الله، وابتغاء فضله ورضاه، وكاد أغنياؤهم وفقراؤهم يكونون في الفضل سواء؛ لم يمنع الفقيرَ فقرُه وفاقته أن يبلغ الجهد في الإنفاق، ولو درهمًا أو درهمين، أو حفنة أو حفنتين، كما لم يمنع الغنيَّ حبُّ المال والأولاد أن يبذُل شطرَ ماله أو جلَّه أو كلَّه في سبيل الله، وكان يتجلى هذا التعاون إذا ادلهمَّت الخُطوب، واشتدت الأزمات.
 
نموذج رائع:
وهذا مثال رائع من أمثلة كثيرة يُخطئها العدُّ، في استجابتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يدْعوهم في المُلمَّات، ويَندُبهم لكشف الكُربات، هؤلاء قوم من أعراب مضر، تَنطِق أحوالهم بالبؤس والفاقة، وتنادي رثاثةُ ثيابهم وهلهلتها بالعُري والحاجة، قَدِموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتغون مما أفاء الله عليه، ويرْتَجُون تيسير عُسْرتهم لديه؛ ومَن أَوْلى بذلك منه وهو أجود بالخير من الريح المُرسَلة؟ ولكن ماذا يصنع - صلوات الله عليه - وليس عنده شيء؟ لقد دخل بيته لعله يجد شيئًا يُعينهم به، فلم يجد، وما كان أشدَّ هذا الأمرَ عليه أن يرى ذا حاجة ليست عنده حاجتُه، أو طالب معونة ليست بيده معونتُه!
 
إذًا فليَدْعُ أصحابَه من حضَر منهم لتفريج هذه الكربة، وليندُبهم لإزالة هذه العسرة؛ فإنهم أول مَن ينتدبون للتعاون على البر والتقوى، ويأتَسون بمن لا يدَّخر شيئًا في سبيل الله، وكذلك فعَل - صلوات الله وسلامه عليه.
 
كان وقت الصلاة قد حان، فأمر بلالاً أن يؤذِّن لها ويقيمها، وبعد الصلاة رقي منبرَه خطيبًا على عادته كلما حَزَب أمر أو ألمَّتْ مُلمة، وأخذ يحث على الصدقة والإنفاق، فأبطأ الناس بعضَ الإبطاء، ولعلهم كانوا ينتظرون تمام خُطبته، أو يستقِلُّون ما بأيديهم من المال والمتاع، وكان إذا كَرِه شيئًا تغيَّر، وإذا تغيَّر رُئي ذلك بوجهه، وما هي إلا لحظات حنى انبرى رجل من الأنصار - ورحِم الله الأنصارَ! - إلى صُرَّة من فضة كانت عنده، فأتى بها وكفُّه تَعجِز عن حمْلها، حتى وضَعها بين يديه - صلوات الله عليه - ثم تتابَع الناس في البذل، كلٌّ على حسب وُسْعه، و ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، حتى كان كومان عظيمان من الطعام والثياب، عدا ما هنالك من الذهب والوَرِق، وحينذاك أستبشَر النبي - صلى الله عليه وسلم - واستنار وجهه فرحًا وسرورًا بما رأى من تلبية الدعوة إلى البر، والمسابقة في الخير، وإغاثة هؤلاء الملهوفين! ثم بشَّر ذلك الأنصاريَّ الكريم، الذي فتح باب هذا الخير العظيم، بأنه قد سَنَّ سنة حسنة، له عند الله أجرُها وذُخرها، ومِثل أجر من عمِل بها واقتفى أثرها إلى يوم يبعثون.
 
عبر وعظات:
في هذا الحديث عبر وعظات، حُقَّ على من قرأه أن يتأمَّلها وينتفَع بها، ولا سيما الدعاة إلى الله تعالى؛ فإن فيه من الحكمة والموعظة الحسنة مَثلاً للهداة، ونبراسًا للمُرشدين.
 
فيه: جمْع الناس لعظائم الأمور، وحثُّهم على التعاون في الخير، مع رعاية المناسبات، وتخيُّر الأوقات، وخيرها أوقات الصلوات، بعد الوقوف بين يدي الله، والاستمتاع بحلاوة الضراعة والمناجاة.
 
وفيه: تذكيرُ الناس بالبواعث على الإجابة، والحوافز إلى المنافَسة؛ ولهذا افتتح خُطبتَه - صلى الله عليه وسلم - بآيتَي التقوى؛ وفي الآية الأولى تذكِرة السامعين بنعمة الإيجاد والتربية، وأنهم جميعًا إخوة لأب واحد وأم واحدة، لا فضْل لأخ على أخيه إلا بالتقوى، وأنه - سبحانه - رقيب عليهم، وسيَجزيهم بما كانوا يصنعون؛ وفي الآية الأخرى تذكرةٌ بالدار الآخرة التي يرحلون إليها لا محالة في الغد القريب، وإذا كان لا بد للمسافر من زاد، ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
 
وفيه: التيسير على المُحسنين، والرِّفق بالضعفاء المخلِصين، فليتصدَّقْ كلٌّ بما استطاع، ولو بشِق تمرة؛ ورُبَّ قليلٍ هو عند الله أزكى وأطهر من كثير؛ وإنما الأعمال بالنيات.
 
حقيقة السنة الحسنة والسنة السيئة:
وفي الحديث كشْف النقاب عن السنة الحسنة والسنة السيئة، وبيان حقيقة كل منهما؛ إذ أوضح - صلوات الله وسلامه عليه - أن كل عمل صالح يَبتدئ به صاحبه فَيدعو الناس إلى مثله، فهو السنة الحسنة؛ ومنه يُعلم أن كل عمل غير صالح يبتدئ به صاحبه فيدعو الناس إلى مِثله، فهو السنة السيئة، وطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير[5]؛ للأول أجره وأجر من اهتدى به إلى يوم القيامة، وعلى الثاني وزرُه ووزرُ من اقتدى به إلى يوم القيامة.
 
ومن قبيل السنة الحسنة ما يسنُّه ملوكُ المسلمين وكبراؤهم من العطايا الجزيلة، والأعمال الجليلة، والمشروعات النافعة؛ من تلك الباقيات الصالحات التي تخلد ذكراهم بالدعاء لهم والاقتداء بهم؛ وعلى العكس منها سنن سيئة حَمَل بعضهم أثقالها وأثقال من اقتدى بهم فيها.
 
•    •    •
وبعد، فلعل في هذا البيان على وَجازته، مَقْنعًا لخَصمين اختصموا في السنة والبدعة، وأضاعوا العمر في جدال عنيف، وسِباب جائر، ثم افترقوا على غير هدى من الله ولا بصيرة‍! ولعل الله أن يفتح على قومنا هؤلاء ويَهديهم للتي هي أقوم، ويبعث فيهم مَن يسنُّ لهم في الإصلاح سنة حسنة يفوز بأجرها وأجر مَن عمِل بها بعده من غير أن يَنقص من أجورهم شيء. ‍‍
 
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي

الهوامش

 

[1] مجلة الأزهر، العدد السابع، المجلد الثامن عشر، 1366.
[2] خبر بمعنى الأمر، وهو أبلغ، كأن الامتثال قد تحقَّق (طه).
[3] في كتاب الزكاة 2: 705 (1017) وفي كتاب العلم 4: 2059 (1017)، ومع أن الرواية الثانية أخصر، ففيها فوائد متمِّمة انتفعنا بها في الشرح (طه).
[4] أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
[5] اقتباس من حديث رواه ابن ماجه في "المقدمة" (238) من حديث سهل بن سعد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيحُ، فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحًا للشر، مغلاقًا للخير"؛ قال البوصيري في "الزوائد" إسناده ضعيف؛ لضعف عبدالرحمن بن زيد بن أسلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين