سنة بضع سنين وعلاقتها باستدراج الظالم وإهلاكهم

د.رشيد كهوس
كاتب وباحث
جامعة محمد الأول/وجدة-المغرب الأقصى


إن المتتبع لسنن الله الكونية ليندهش اندهاشا كبيرا لانضباط وعيد الاستدراج والهلاك وتحقيقه في بضع سنين وبيان ذلك بتفصيل كما يأتي:

1 –رفعه صلى الله عليه وسلم  الإنذار عاليا : نزل قوله عز من قائل: ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، وعلمت قريش بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان كلامه عبثا، ولا هو يتوعدهم باطلا.

2 -لم يكتف القرآن بالإنذار فقط، بل جاء برسالة تامة بينة التقاسيم واضحة المعالم: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [192] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [193] عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [194] بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [195] وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [196] أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ [197] وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ [198] فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [199] كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [200] لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [201] فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [202] ﴾. كانت هذه الرسالة دعوة صريحة جامعة في مضمونها، كاملة في مقصدها، بينة في محتواها، لم تبق لبسا لملتبس.

3- وككل الناس حينما يصيبهم ما يذهلهم أو يتحداهم تبحث قريش عن مبرر لهذا الحدث فجاءوا بقولهم: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ فالذي يتكلم عن الغيب كان مشاعا لديهم أن هذا الفعل لا عدو أن يكون من تأثير الجن والتي كانت قبل نزول الوحي تلتقط خبر السماء وتوحي به إلى شياطين الإنس, فبرروا بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا من هذا القبيل.

4- وعوض أن يلتفتوا لهذا الإنذار الثقيل الذي يحمل بشرى ذهاب ريحهم، تساءلوا في كبر يدفعه استغراب الظروف الراهنة والتي لا تواكب ثقل هذا البلاغ : ﴿ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ [203] أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [ 204] أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [205] ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ [206] مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [207] وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ [208] ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [209] وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ [210] وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [211] إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [212]﴾. وجاءت هذه الآيات تثبيتا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووعيدا صادقا لقريش، أدركت قريش أنها مقصودة وأنه عليها أن تصفي حساباتها مع هذا النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحقيق وعده عليها، فأجمعوا أمرهم وتشاوروا وقرروا التآمر عليه ضربة رجل واحد رغم تعدد أنسابهم وتشعبها.

5 -ويأتي الإخبار الرباني بخروج النبي : صلى الله عليه وسلم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

6 -النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بالخروج من مكة : فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي رفع النداء عاليا -سوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار- يؤمر بالخروج من مكة ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾؛ نعم فريق من المؤمنين كرهوا خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي رفع التحدي عاليا، يخرج شأن من ينسحب بالاستقالة من المهمة؟

7 -وإذا كان الموقف السابق يوضح كراهية المؤمنين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تبارك وتعالى –الذي يعلم ما تخفي الصدور- ما كان ليترك المؤمنين في حيرة تناوشها الوساوس؛ إذ سرعان ما تدخل الغيب لتثبيت المؤمنين موضحا أن وعد عاقبة الدار لا زال ساريا مفعولا وسيعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لتحقيقه. إنها البشارة ليطمئن القلب ويستكين بباب مولاه ووعد عاقبة الدار ساريا مفعولا: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، نزلت "هذه الآية بالجحفة" أثناء الهجرة، والمعاد هنا ذلك الوعد الذي توعده قريشا بأن عاقبة الدار له لا لقريش، ولكن بعد بضع سنين كما سبق في الوعيد.

8 -ويأتي التفسير الرباني للحادث برمته بمزيد بيان وتأكيد الأجل المحتوم:﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾، تلك سنة الله تتأكد مرارا وتكرارا وهو ما يشد نفسية رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ويثبت فؤاده، ويزداد يقينا مرة بعد أخرى بهلاك الكافرين المتغطرسين في بضع سنين، ببيان واضح مكشوف معروف لدى الخاص والعام، ليست خطة مستورة حتى تحتاج إلى من يحذر قريشا من مجيئهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، ولا يأتيهم إلا بعد أن يصيبهم عذاب أليم :﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [201]فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [202]﴾ ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ [204] أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [205] ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ [206] مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [207]﴾، وقد ذاق صناديد قريش العذاب في الدنيا -في غزوة بدر الكبرى كما سنرى في أحداثها- بسيوف الحق التي حصدت رؤوس الشرك ليلقى بها في النهاية في القليب، وما ينتظرها عند الله من العذاب الأليم أشد وأنكى!

9- رغم كل التنبيهات والبيانات والوعيد لبضع سنين ظلت قريش في مأمن كأن لا تنتظرها عواقب تذهب بريحها، حتى جاء وعد الله وتعاقد النبي  صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش في عمرة  الحديبية،  وكان هذا الصلح استدراجا لكفار قريش وعين النصر للمسلمين، ومضى عام على الصلح ورجع المسلمون إلى مكة في عمرة القضاء، ودخلوا الحج فحجوا واعتمروا وأذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يبقى بعد الثلاث أحد بمكة؛ لكن بعد ذلك غدرت قريش ونقضت بنود الصلح، فكان ذلك سبب الهزيمة والاستسلام المطلق وفق سنة الله في استدراج الظالمين ثم إهلاكهم وكسر شوكتهم.فداهمت الجيوش النبوية مكة في محاصرة لا مثيل لها فكان الفتح الأعظم للبلد الحرام في بضع سنين في شهر رمضان من العام الثامن للهجرة.

10- ويبرر الحق سبحانه وتعالى لماذا لم يلحق بقريش هزيمة نكراء بقوله تعالى وتقدس: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.

وهنا نقف وقفة إجلال وتعظيم لرب  رؤوف رحيم بالمؤمنين، لقد كان بمكة رجال ونساء مؤمنون لا يعلمهم أهل المدينة  الذين جاءوا لمكة يوم الحديبية،  ويقول سبحانه وتعالى عنهم : ﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ﴾ لو  مست الجيوش النبوية  المؤمنين  بمكة  لمسهم عذاب عظيم. هذا وعيد من الله شديد لمن آذى المؤمنين بغير علم؛ فكيف بنا في زماننا يقتل فيه المسلم أخاه المسلم بتفجيرات في الحافلات والشوارع والأسواق وحتى في المساجد كما يحدث في العراق المكروب، وفي أفغانستان وباكستان والجزائر وباقي دول المسلمين؟! ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ وهذا ما يثبت أن المؤمن له حرمة عند ربه عظيمة, بسببه قد يرفع الله العقاب عن القوم الذين وجد فيهم, وهذه نكتة لطيفة، وإشارة بليغة تهز قلوبا متدبرة للقرآن، متعظة به متذكرة به.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين