مقام الأنبياء والرسل عند الله عظيم، إذ اختارهم الله واصطفاهم لحمل الأمانة، وتبليغ لرسالة، وتعريف الخلق بخالقهم سبحانه، ولاشكّ أنّ الإساءة إليهم إساءة إلى الله الذي اصطفاهم وأرسلهم.. وإذا كان الله تقدّست ذاته، وتباركت أسماؤه ينتصر لعباده المؤمنين، ويدافع عنهم، كما يقول سبحانه: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور}[الحج:38]، فلا شكّ أنّ الله سبحانه يدافع عن أنبيائه ورسله، وينتصر لهم، ولكنّ سنّة الله فيهم، وفي عباده عامّة قضت في هذه الحياة أن يبتلي الأخيار بالأشرار لحكم كثيرة، لا تحيط بها عقول البشر، ثمّ تكون العاقبة للمتّقين.
وينبغي أن يَعلمَ كلُّ مسلم أنّ العداء الفكرِيّ، والافترَاء والاستهزاء بصوره المختلفة، وأساليبه والمتعدّدةِ، لم ينقطع طيلة القرون الماضية من حياة هذه الأمّة المجيدة.. ومع ذلك فقد كانت الأمّة ماضية نحو غايتها الشريفة، وأهدافها الواضحة، وأعمالها الإيجابيّة البنّاءة، لا يضرّها كيد الخفافيش في ظلام الليل، وغيبة الحسيب والرقيب، بله أن يصدّها ذلك عن دينها، أو يشكّكها بعقيدتها، وكما يقول المثل: " القافلة تسيرُ، والكلاب تنبح.. ".
وإنّ من الأحكام الشرعيّة التي لا يختلف فيها اثنان: أنّ الإساءة إلى مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم تعدّ بمثابة إعلان الحرب على أمّة الإسلام كلّها من أقصاها إلى أدناها، وذلك يوجب في أقلّ تقدير وأضعف الإيمان قطع العلاقة بكافّة أشكالها: السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وغيرها، مع تلك الدولة التي يصدر مثل ذلك عن بعض رعاياها، فتقرّه، وتسكت عنه، وتدافع عنه، ولا تستنكر فعله، ولا تأخذ على يد فاعله وتعاقبه.
وبناء على ذلك فإنّ ما حدث من مواقف الاستنكار الشعبيّ، والمقاطعة التجاريّة، مع ما فيه من الخير هو أقلّ من الواجب بكثير، ممّا يدعو المجرمين إلى أن يتجرّءوا أكثر، لأنّهم يرون حصون الأمّة لا حماة لها، ولا غيارى على انتهاكها..
ومع ذلك فإنّ الله تعالى قد خصّ نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم إذ جعله خاتم الأنبياء والمرسلين أن جعل العقوبة عاجلة لمن سبّه أو آذاه، ولن تكون عاقبته إلاّ الخزي والبوار، وربّما جاءت النقمة الإلهيّة بصورة غريبةٍ عن مألوف الناس، ممّا يزيد المؤمنين إيماناً، ويدلّل على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلوّ مقامه عند ربّه.
وقد يتساءل بعض الناس: وما دليلك على ما تقول.؟ فإليك أيّها القارئ الكريم بعض هذه الأدلّة:
1 ـ يقول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}[الكوثر:1 ــ3].
قال الإمام الشوكاني في قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}[الكوثر:3] أي: إنّ مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم. فيعمّ خيري الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته، وظاهر الآية العموم، وأنّ هذا شأن كلّ من يبغض النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما مرّ غير مرّة. قيل: كان أهل الجاهلية إذا مات الذكور من أولاد الرجل قالوا: قد بتر فلان، فلما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد، فنزلت الآية. وقيل: القائل بذلك عقبة بن أبي معيط. قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدوابّ: الذي لا ذنب له، وكلّ أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر القطع، يقال بترت الشيء بتراً: قطعته [فتح القدير 8/70/].
وقال الإمام الواحدي في أسباب النزول: قال ابن عباس رضي الله عنه: إنّ العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم، فتحدث معه، وأناسٌ من صناديد قريش في المسجد، فلما دخل العاصي عليهم قالوا له: من الذي كنت تتحدث معه؟ فقال: ذلك الأبترُ، وكان قد توفّي قبل ذلك عبدُ الله ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن مات ابنه القاسم قبلَ عبد الله، فانقطع بموت عبد الله الذكورُ من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكانوا يَصِفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة، فحصل القصر في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}[الكوثر:3] لأنّ ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف، وهو شانئ النبي صلى الله عليه وسلم قصرَ المسند على المسند إليه، وهو قصر قلب، أي هو الأبتر لا أنت [التحرير والتنوير 16/407/].
وقال الشيخ ابن عاشور: " ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه، وهو ردّ لقول العاصي بن وائل أو غيره في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر، دون المعنى الذي عناه هو، حيث لمز النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّه أبتر، أي لا عقب له، لأن العاصي بن وائل له عقب، فابنه عمرو الصحابي الجليل، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل، ولعبد الله عقب كثير. فقوله تعالى: {.. هُوَ الأَبْتَر}[الكوثر:3] اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئي النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه.
ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل: « مُحَمّد أبتر » إبطالاً لقوله ذلك، وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهاً على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى: {يَسألونكَ عَنَ الأهلّة قُل هِيَ مَواقيتُ للنّاسِ وَالحَجِّ... }[البقرة:189]. وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر، إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنّه لا ولد له، لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله، وهب أنّه لم يولد له البتّة، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصاً لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعيّة من الاعتماد على الجهود البدنيّة، فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر، وذلك أمر قد يعرض، وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته، وذلك أمر وهمي، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة، وأعزّه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحّض أنّ كماله الذاتيّ بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأنّ كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم [التحرير والتنوير 16/407/].
ويقول سيّد قطب رحمه الله: " في الآية الأولى قرّر أنّه صلى الله عليه وسلم ليس أبتر، بل هو صاحب الكوثر، وفي هذه الآية يردّ الكيد على كائديه، ويؤكّد سبحانه أنّ الأبتر ليس هو مُحَمّد صلى الله عليه وسلم، إنما هم شانئوه وكارهوه، ولقد صدق فيهم وعيد الله، فقد انقطع ذكرهم وانطوى، بينما امتدّ ذكر مُحَمّد صلى الله عليه وسلم وعلا، ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأوّلون !
إنّ الإيمان والحقّ والخير لا يمكن أن يكون أبتر، فهو ممتدّ الفروع عميق الجذور، وإنما الكفر والباطل والشرّ هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر..
إنّ مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكنّ البشر ينخدعون ويغترّون، فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد.. فأين الذين كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوب الجماهير، ويحسبون حينئذ أنّهم قد قضوا على محمد صلى الله عليه وسلم، وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذكراهم، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!
إنّ الدعوة إلى الله والحقّ والخير لا يمكن أن تكون بتراء، ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحيّ الباقي الأزليّ الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشرّ، ويبتر أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنّه طويل ممتدّ الجذور.. وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون.. [في ظلال القرآن 8/115/]
2 - ويقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين}[الحِجر:95]، أي: إنّا كَفَيْنَاكَ شرّ المُسْتَهْزِئِينَ بك، الجاهدين في عداوتك، الساخرين منك، ومن دينك، وورد في أسباب النزول أنّهم جماعة ذوو قوّة وشوكة من المشركين، وكانوا خمسة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلّب، والأسود بن عبد يغوث، وهذا تأمين ربّانيّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعصمة وصون، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يبالي بسخريتهم واستهزائهم، ولا بشيء من إيذائهم، وقد روي أنّ جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقبِ الوليد فتعلّق بثوبه سهم، فأبى تعظّماً نزعه، فأصاب عرقاً في عقبه فمات، وأومأ إلى إخمص العاص بن وائل، فمات بشوكة دخلت فيه، وأشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي، وأشار إلى أنف عديّ بن قيس فامتخط قيحاً فمات، وأشار إلى الأسود بن يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة فأصيب بداء فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتّى مات [انظر تفسير الرازيّ: 19/215، وتفسير القرطبيّ: 10/62، وتفسير ابن كثير: 2/559].
3 ـ ومن غرائب الوقائع التاريخيّة ما روى الإمام ابن حجر العسقلاّنيّ رحمه الله في كتابه: " الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة ": أنّ النصارى كانوا ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول طمعاً في تنصيرهم، وقد مهّد لهم الطاغية " هولاكو " سبيل الدعوة، بسبب زوجته الصليبيّة " ظفر خاتون "، وذات مرّة توجّه جماعة من كبار النصارى لحضور حفل مغوليّ كبير، بسبب تنصّر أحد أمراء المغول، فأخذ واحد من دعاة النصارى في شتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان هناك كلبُ صيد مربوط، فلمّا بدأ هذا الصليبيّ الحاقد في سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، زمجر الكلب وهاج، ثمّ وثب على الصليبيّ، وخمشه بشدّة، فخلّصوه منه بعد جهد، فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حقّ محمّد صلى الله عليه وسلم، فقال الصليبيّ: كلاّ، بل هذا كلب عزيز، رآني أشير بيدي فظنّ أنّي أريد ضربه، ثمّ عاد الصليبيّ لسبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقذع في السبّ، عندها قطع الكلبُ رباطَه، ووثب على عنق الصليبيّ، وقلع زوره في الحال، فمات الصليبيّ من فوره، وعندها أسلم أربعون ألفاً من المغول " [الزور: هو ملتقى عظام الصدر حيث اجتمعت، وما ارتفع من الصدر إلى الكتفين].
وصدق الله العظيم: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز}[المجادلة:21].
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول