سماحة النفس


الشيخ مجد مكي

من الناس من يتمتع بخلق سماحة النفس، فهم هيِّنون ليِّنون سمحاء، ويوجد فيهم آخرون نكدون متشددون يتذمرون من كل شيء لا يوافق هواهم، ويريدون الدنيا أن تكون على وفق شهواتهم وأهوائهم، فلا يستقبلون الأحداث بسماحة نفس، بل يستقبلوها بتمعّر في وجوههم، وتسخط في نفوسهم وسب وشتم في اللسان.

أما سمحاء النفوس فإنهم يتقبلون ما يجري به القضاء والقدر من خير أو شر بالرضى والتسليم، ويذكرون قول الله تعالى:[ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}.

[فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء:19}.

فهم هيِّنون ليِّنون، يترقبون المستقبل بتفاؤل وأمل، ويستقبلون الواقع بانشراح لما يحبون وإعفاء عما يكرهون، وبذلك يُسعدون أنفسهم ويريحون قلوبهم.

وأما أصحاب النفوس النكِدة المتشددة فإنهم قلما يرضيهم شيء، ولا ترى عيونهم من الأشياء إلا قُبحها، فلا يرون في البدر إلا كلفة، ولا يشاهدون في شجرة السورد إلا شوكها، ولا يرون في الجبل الشامخ إلا أنه عقبة في طريق السالكين، ولا يرون في الصيف إلا أن شمسه محرقة، ولا يرون في الشتاء إلا برده، ولا يرون في كتاب عظيم النفع إلا ما فيه من أخطاء وسقطات، ولا يرون في الطعام اللذين إلا الشعرة التي سقطت فيه خطأ.

فوائد سماحة النفس ومضار نكدها:

يستطيع سمح النفس أن يغنم في حياته أكبر قسط من السعادة وهناءة العيش ويستطيع أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له وثقتهم به، لأنه يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب، ولأنه يعاملهم بالنصيحة والستر والسماحة في الأمور الحادثة ويجلب سمح النفس الحصين اللين لنفسه  الخير الدنيوي والخير الأخروي، برضي الله تعالى.

أما نكد النفس العسير الشديد فهو في حياته متذمر متضجر، وهو من الناس مكروه تنفر منه الطباع وتتحاشاه الأبصار والأسماع، ويتجافى عنه الناس فيحرم بذلك من الخير الدنيوي، ويحرم نفسه من حب الله ورضاه لأنه كثير التسخط على مقاديره.

ترغيب الإسلام بسماحة النفس وتنفيره من نكدها:

1 ـ روى البخاري عن جابر مرفوعاً: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى).

2 ـ ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم: (هيِّنون ليِّنون سمحاء). روى الترمذي في حديث مرسل عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هيِّنون ليِّنون كالجمل الآنف، إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ) والجمل الآنف: هو الذلول السهل الذي يطيع صاحبه و لا يعصيه.

3 ـ روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار ويمن تحرم النار عليه؟ على كل هيِّن ليِّن قريب سهل).  وروى أبو داود والبيهقي في الشعب عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجوَّاظ ولا الجَعْطري) أي: الغليظ الفظ.

4 ـ وشبَّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الناس في أخلاقهم وطباعهم بالأرض فالهيِّنون كهيِّنها، والقساة كحزنها.

روى أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض والأسود، وبين ذلك والسَّهل، والحَزن، والخبيث والطيب).

الناس كالأرض ومنها همُ=فمن خشن الطبع ومن لين

فجندل تدمى به أرجـــــــــل=وأثــــمـدٍ يوضع في الأعين

 

فالنفس السمحة كالأرض المستوية الطيبة الهيِّنة، فهي لكل ما يراد منها من خير صالحة، فإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء عليها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت.

5 ـ وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم أسوة حسنة في سماحة النفس، وسهولة المعاملة ولم يكن صلى الله عليه وسلم نكداً ولا صعباً ولا فظاً ولا غليظاً، ولذلك اثنى الله تعالى عليه بالرِقة ولين الجانب، ونفى عنه الفظاظة وغلظ القلب:[ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.

من ظواهر خلق سماحة النفس:

إضافة إلى ما ذكرناه من ظواهر خلق السماحة، من لين الجانب، ورقة المعاملة واستقبال الأحداث بالرضى والبشر، فنجد من ظواهر هذا الخلق أيضاً:

أ ـ طلاقة الوجه واستقبال الناس بالبشر:

وطلق الوجه محبب إلى الناس، مألوف في نفوسهم قريب إلى قلوبهم:

1 ـ روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).

2 ـ وروى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة).

3 ـ وقد كان صلى الله عليه وسلم دائم البشر، طلق الوجه مشرقاً، روى الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

وعن جرير البَجَلي رضي الله عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ابتسم.

ب ـ مبادرة الناس بالتحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والمصافحة وحسن المحادثة:

قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا] {النور:27}.  [فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] {النور:61}.[وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] {النساء:86}.

1 ـ روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير ؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).

2ـ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

3 ـ وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).

4 ـ وروى أبو داود عن أنس رضي الله عنه لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة).

5 ـ وروى أبو داود عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمَين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا).

ج ـ حسن المصاحبة والمعاشرة والتغاضي وعدم التشدد:

فمن كان سمح النفس كان حسن المصاحبة لإخوانه وأهله وأولاده وخدمه يتغاضى عن المخالفات، ولا يعظم الصغائر، بل يلتمس العذر.

1 ـ روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف! ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت).

2 ـ وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه: أرسلني صلى الله عليه وسلم يوماً لحاجة، فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: (يا أنيس ذهبت حيت أمرتك؟ قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله ).

3 ـ ومن سماحته صلى الله عليه وسلم وحمله وخلقه العظيم قصته مع الأعرابي الذي أخذ يجذب رداءه بشدة ليأمر له بعطاء.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشيته البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد أمر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء.

4 ـ ومن سماحته صلى الله عليه وسلم: أنه ما سئل شيئاً قط فقال: لا.

5 ـ ومن سماحته وتواضعه ولين جانبه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت تأتيه الأمة الضعيفة فتأخذ بيده ليقضي لها حوائجها.

6 ـ ومن سماحته ويسره: مشاركته أهله في أعمال البيت.

7 ـ ومن سماحته ورغبته بالأيسر: أنه ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن ينتهك حرمة الله فينتقم لله لها.

8 ـ ومن سماحته تغاضيه عن السيئات و الهفوات.

روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم منه.

وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه و

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين