سمات المسلم الحق


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويديه، والمؤمن من أمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم) رواه الترمذي والنسائي.


يظن كثير من الناس أن الإسلام لفظ يلاك باللسان، وحسبُ المرء ليكون مسلماً أن ينطق بالشهادتين، وأن يتردد إلى المساجد، وأن يكثر بلسانه من الدعوة إلى الفضيلة والتنفير من الرذيلة، وإن كان مع ذلك يؤذي الناس بلسانه، يسب ويغتاب، ويكذب، ويشي وينمُّ، ويخدع، ويؤذيهم بقلبه: يحقد ويبغض، ويكيد ويحسد، ويؤذيهم بيده: يقتل ويسرق، وينهب ويهتك، ويدمر ويخرب.
مثل هذا لا يَرى نبيُّ الإسلام أنه مسلم حقاً، فهو يقول صلوات الله وسلامه عليه: (
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).


وهذه الجملة لا يراد منها تحديد معنى (المسلم) في لسان الشرع تحديداً يكشف عن أصل حقيقة الإسلام بمعناه الجامع للنظر والعمل، وإنما هي تعطينا من خصال الإسلام شعبة واحدة من شعبه العملية، وهو كف الأذى عن الناس.


غير أنه لما كانت هذه الشعبة الفرعية تصلح معياراً يتميز به المسلم الصادق من المسلم المنافق، وضعت بإزاء المسلم موضع التعريف، كأنه عليه السلام يقول: إذا رأيتم الرجل يتحامى أن يضارّ المسلمين بلسانه ويده فاعلموا أنه مسلم، وإذا رأيتموه يتحرى مضارة المسلمين من بين الناس إما بلسانه وإما بيده فهو ليس من الإسلام في شيء، وإن كان ممن يدعي الإسلام.
على أن التقييد في الحديث بالمسلمين ليس معناه عدم وجوب مسالمة غيرهم، بل يجب كفُّ الأذى عن كل من يسالم المسلمين من أهل ذمة ومعاهدين ومهادنين، ولكن مسالمة المسلمين واجبة بالأصالة، ومسالمة غيرهم واجبة تبعاً لهم لمسالمتهم إياهم. 


أما المحاربون فلا يجب كفُّ الأذى عنهم، بل الواجب رد عدوانهم.


هذا مسلك في فهم مغزى الحديث.
وهناك مسلك آخر، وهو أن الإسلام في قوله عليه السلام: (
المسلم من سلم...) لا يراد فيه أصل العقيدة، بل يراد به معناه الجامع لكافَّة الأركان الواجبة.
فمسالمة المسلمين إحدى شعبه الواجبة، وأنها منه بمنزلة ما لا يتم الشيء إلا به، وهذا كما نقول: لا إنسان بدون رأس، أو لا متعة في الحياة بفقد البصر، نعني أنه لا غنى عن الرأس والبصر، ولا نعني أن الرأس يغني عن القلب وسائر الأعضاء الرئيسية، أو أن البصر يغني عن السمع وسائر الحواس.
وإذن فلا يصلح الحديث متكأ لأولئك المفرطين في جنب الله، الذين إذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون، وإذا قيل لهم: أنفقوا يكنزون، ثم يقولون: الدين المعاملة، وما دمنا لا نؤذي أحداً فنحن خير ممَّن يصلي ويصوم، كأنَّ من أحسن معاملة الناس لا حرج عليه إن أساء معاملة الله!!.


كلا، إن ذلك لا يؤديه الحديث بمنطوقه لغة، ولا يمكن التمسك فيه بمفهومه شرعاً.
أما اللغة: فلأن ها هنا فرقاً بين أن نقول: (لا مسلم إلا من سالم المسلمين) وبين أن نقول: (لا يسالم المسلمين إلا مسلم) فلو كان الحديث على الوضع الثاني لكفى في الإسلام جانب المعاملة.
أما وهو على الوضع الأول، وهو (لا مسلم إلا من سالم المسلمين) فكل ما يدلُّ عليه هو أنه لابد في الإسلام من المسالمة، وهو لابد من شيء آخر أيضاً يرجع فيه إلى سائر أدلة الشريعة.
فالمعنى على هذا المسلك: أنه لا تتم أركان الإسلام إلا لمن كفَّ أذاه عن المسلمين، فمن لم يَسلم المسلمون من أذاه فهو غير حريٌّ بأن يطلق عليه لقب: المسلم في معرض المدح والثناء، لأنه ضيع من الإسلام أحد شطريه.


فالإسلام عبادة ومعاملة، ولا تمام له إلا باجتماع شطريه واكتمال ركنيه.
فلو ترخص أحد بظاهر الحديث في الاستغناء بحسن معاملة الخَلْق عن حسن معاملة الخالق لقيل له: أرأيت لو قال صلى الله عليه وسلم (لا صلاة إلا بقراءة) أكان ذلك رخصة في ترك سائر شروط الصلاة من ستر العورة واستقبال القبلة، أو سائر أركانها من الركوع والسجود؟ فإذا كان لا يغني شرط عن شرط، ولا ركن عن ركن، فكذلك ههنا، فإن التنبيه على أحد واجبات الإسلام ليس رخصة في ترك سائر واجباته.


هذا في اللغة، وأما الشرع فقد بلغ من عنايته بأمر العبادات أن ألحقها بالأصول الاعتقادية، حتى قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (إن بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة) وأصله في القرآن الكريم قوله تعالى: [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {التوبة:11} .


فجعَل الأخوة في الدين موقوفة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لا على مجرد النطق بالشهادتين وترك المحاربة، فلا شبهة لعاقل في أن العبادات من الدين بمنزلة الأساس من البنيان، بل بمنزلة الروح السارية في الأعضاء، فإنه ليس حق من حقوق الناس إلا وفيه حق من حقوقه تعالى، أقله نية امتثال أمره.


وفي الحديث مسلك ثالث، ولعله أحسنها، وهو أنه ليس المقصود من الحديث مجرد التنبيه على أن هذه الشعبة واجبة كسائر الواجبات، بل جعلها بالمنزلة العليا من شعب الإسلام، وجعل ما عداها من الشعب إذا قيس إليها كأنه ليس شيئا مذكوراً، وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) يعني أن الوقوف بعرفة هو أعظم أركان الحج، لأن من أدرك الوقوف بعرفة فقد أدرك الحج، فكأنه هو الحج كله.


هذا أسلوب معروف في اللغة، فعادة البلغاء إذا كان للحقيقة فردان، وكان أشهرها الذي يتعلق به ذهن السامع هو أهونهما، وأريد لفته إلى أقواهما، وضعوا الكلام على نفي الاسم عن الأول وإثباته للثاني، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب) وقوله: (ليس الغنى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس).
فعلى هذا المنهج كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (
ليس المسلم بذلك المصلي الصائم الذي لا يتورَّع عن أذى الخلق، إنما المسلم هو من كفَّ عن الناس أذاه وأراحهم من شره).


بل إن في أسلوب الحديث ما يشير إلى معنى أدق من هذا كله، فإنه يلوح بما فيه إلى أن هذه الشعبة هي الأصل في تسمية المسلم بهذا الاسم، وأن منها اشتق اسم الإسلام، كأنَّ معنى: (أسلم) جعل الناس سالمين من أذاه، وليس معناه فقط جعل نفسه سلماً لله، وكم في حسن هذا التعليل من تحذير من المضارة، إذ يجعل الذي يؤذي الناس وهو يحمل لقب الإسلام كأنه يحمله زوراً، وينتحله انتحالاً، وهو ليس له بأهل.
وكذلك نقول في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (
والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)


فإن الجملة لم يؤتَ بها إعلاماً بفريضة جديدة زائدة على ما قبلها، بل تنبيهاً على أن هذه الفرائض المذكورة ينطوي عليها لقب الإيمان كما يتضمنها لقب الإسلام، وذلك أن (الإيمان) مأخوذ من الأمن، كما أن (الإسلام) مأخوذ من السلام.


قيل له صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تصوم نهارها وتقوم ليلها وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه السلام: (لا خير فيها هي من أهل النار).
هذا هو معنى الإسلام، وسمات المسلم الحق في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم.


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 


المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 10 السنة 8 1374هـ، 1955م.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين