سلامة التوحيد أولًا

سلامة التوحيد أولًا

 

محمد محمد الأسطل

إنَّ جنابَ الله آَمِنٌ، لِكُلِّ مَن عبد الله وآَمَنَ، اقرأ في ذلك قرآنًا بالحق نزل:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]!

رسالة الآية:

إن الأمن الإلهي يُسَربِلُ العبد ما دام يعلن التوحيد، ولا يشرك بالله العلي الحميد، أما إن كفر فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ شديد، يَشْتَمُّ ريحَه في الدنيا، ويناله كاملًا يوم الوعيد، فمن فَقِهَ الدرس وعَقِلَ المراد فذاك الآَمِنُ السعيد!

والله لن يصل أحد إلى الدنيا إلى بالله، فكيف يصل أحد إلى الله بغير الله؟!

ومن أَجَلِّ ما آنسه بصري من كلام ما أخرجه الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: "كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" سنن الترمذي، رقم الحديث: (2516)، ص (566-567)!

وقد ذكر الشيخ عبد الله عزام / أن مجاهدًا بلغ من الكبر عتيًا، نظر لطائرة روسية تقصف المجاهدين، فأخذ في البكاء، ثم نظر إلى السماء قائلًا: يا رب أيهم أقوى: طائراتهم أم أنت؟! أيهم أكبر وأعظم وأعلى: أنت أم الطائرة؟! أتدع الطائرة تهلك عبادك، بمن نستعين سواك؟! ولمن نلجأ غيرك؟! فو الله ما أنزل الرجلُ يديهِ حتى سقطت الطائرة، ثم بَثَّت إذاعةُ كابل أن طائرة سقطت تحمل جنرالًا كبيرًا، ولله الحمد والمنة! عبد الله عزام / تفسير سورة التوبة ص (410).

استعصم بأمان أهل الأرض:

قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]

رسالة الآية:

إن النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار أَمَانَان لأهلِ الأرض، وبارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بقي الاستغفار متفردًا بعصمة الأمان في الأرض!

وكم هي السعادة الأمنية التي تغمر كل مستغفرٍ ذاكر، لجناب التوحيد شاكر، اقرأ في ذلك قرآنًا يعلن البشائر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]!

وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُوَطِّنُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ؛ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ". مسند أحمد، رقم الحديث: (8350)، (14/91).

ولذا؛ فإن الله جل وعلا لما أرسل موسى لفرعون دَلَّهُ على معقد الأمان، فقال له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]؛ ذلك أن الذكر يجلب لهما كل مطلوب، ويدفع عنهما كل مرهوب!

أدرك هذا ابن تيمية فصلى الفجر، ثم جلس يذكر ربه إلى قريب انتصاف النهار، فسأله ابن القيم عن علة ذلك، فالتفت إليه قائلًا: هذه غَدْوَتِي، فإن لم أتغدَّ سقطت قوتي! محمد بن قاسم / المستدرك على مجموع الفتاوى (1/158).

تحقق بخوفك يمدك بأمنه:

وهذا فهم جار على القاعدة الزاخرة الثمينة التي قررها ابن عطاء السكندري بقوله: " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافـه، تحقق بضعفك يمدك بقوتـه، وتحقق بذلك يمدك بعزه، وتحقق بعجزك يمدك بقدرته "!

فإن أعلن العبد خوفه من الله بدل خوفه أمنًا، فقد {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]!

وتعليل ذلك: أن الله له ملك السماوات والأرض، فإن كان الله وحده حظك ومرادك؛ فالأمن بصحبتك، تابع لك، أما إن ابتغيته دون خشية لربك بالشهادة والغيب، حرمك الله إياه، ففاتك الله وفاتك الأمن! [استنباط مستفاد من كلام لابن القيم في الفوائد ص (61)].

 يقينٌ لا يداخله ريب:

أسطر إليك حوادث ثلاثة، ينبغي أن تُقْرَأ على مهل، في صفاءِ ذهنٍ مُتَّصِلٍ، وإلا أَخِّرْهَا إلى أَجَلٍ؛ ذلك أن نيل مقصودها إنما يتم بتقمص حالة أصحابها عند حدوثها، وإليك بيانها:

الأولى: طار إبراهيم عليه الصلاة والسلام جوًا، وثمةَ لحظة واحدة تفصله عن دخول نار قومه، فأتاه مَلَكٌ يعرض عليه أن ينجيه، فأبى ولم يقل: إنه ملك أمدني الله به كَحَبْل نجاة، بل قرر بهدوء وأناة: أما منك فلا، وأما من الله فنعم! فأي يقينٍ مطلقٍ بالله هذا؟!

الثانية: صفة اليقين الذي تمتعت به أم موسى وهي تُلْقِي وليدها في البحر، فكل الآراء الآدمية تؤكد أنه من الهالكين، ووحي الله إليها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]!

الثالثة: حين أقبل جمع فرعون، فرآه جمع موسى، ففرعون مِنْ خلفهم، والبحر من أمامهم!، فظنوا أنهم هالكون، وقالوا: يا موسى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61،62]! فأخبرني بالله عليك: من أي مراتب هذا اليقين؟!

إشارةٌ حمراء لكل عبد صالح:

إياك والمعصية، فإنها تخرم عقدك الذهبي الآَمِن مع الله عزَّ وجلّ، ووالله ما رأيت أذل للعبد منها، فإنها حرمان في الدنيا، وحسرة يوم القيامة، ولا يغرنك أنك مُقِلٌّ منها، فلعل ذنبًا يصيبك في مقتل؛ فيرديك ميتًا طريدًا لا شهيدًا، فتكون بعده شقيًا لا سعيدًا!

ولهذا أَتْحَفَكَ ابن القيم بكلام حَارٍ عَلى مِعدَتِكَ، لكن الدواء في العادة مُرٌ، فقال:

"لُعِنَ إبليس، وأُهْبِطَ من منزل العِزِّ بترك سجدة، وأُخْرِجَ آدم من الجنة بتناول لُقمة، وحُجِبَ عنها قابيلُ بملء كفٍ من دم، ورُجِمَ الزاني بإيلاج قدر أنملة، وجُلِدَ الظهر سِياطًا معلومة بكلمة قذف، أو قطرة سُكْر، وقُطِعَت اليدُ بسرقةِ دراهم ثلاثة، فلا تأمننَّ أن تُحبَسَ في النار بمعصيةٍ واحدة!." [ابن القيم / الفوائد (1/63)]

 إشارة حمراء لكل ظالم متكبر:

إن فرعون لما أراد أن يكون ربًّا، استدرج قومه، قائلًا: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29]، فقبلوا قوله، وَسَلَّمُوا له؛ فقال لهم مختبرًا: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فلما رأى صمتهم، وعَاينَ سُكوتَهم، نَادى فيهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فلما طولب بالدليل، أتى اللعينُ بجواب عليل {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، فصدقوه مذعنين، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 54، 55]!

أخي:

أفاد ابن عباس م أن أربعين عامًا مكثها فرعون يستدرج قومه، لكنه غفل أنه مستدرجٌ من ربه، قال الله عزَّ وجلّ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، فلا يغرنك إمهال الله لك، بل حُقَّ لي أَن أَسألك: هل أنتَ مُستَدْرَج؟! [تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (2/127)].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين