الموجز في التاريخ: سقوط بغداد (656 هـ)

     سار بعد ذلك هولاكو إلى بغداد لتحقيق هدفه الكبير وإسقاط الخلافة العباسية، وكان الخليفة العباسي في ذلك الوقت: المستعصمُ بالله، فأرسل إليه هولاكو يعرض عليه الصلح، وتسليم بغداد إليه دون قتال، لكنَّ الخليفة أبى عليه ذلك، فبعث إليه هولاكو برسالة أخرى، ضمَّنها إنذارًا نهائيًا، صاغه بلهجةٍ شديدةٍ عنيفةٍ، ثم أمر جيوشه بمحاصرة بغداد، ولـمَّا رأى الخليفة أنَّ الأمر جدٌّ، وتذكَّر أنه لا قبل له بهذه الجيوش لأنه لم يستعدَّ لها؛ استشار حاشيته في ذلك، ومنهم وزيرُه الشيعي: مؤيد الدين بن العلقمي، الذي أشار عليه بالخروج إلى هولاكو، ومفاوضته على الصلح.

     لـمَّا علم هولاكو بقَبول الخليفة للتفاوض، وأنه خارج إليه؛ طلب منه أن يأتي معه بوزرائه وحاشيته، وبعلماء بغداد وأعيانها، يشهدون الصلح، فخرج الخليفة إلى هولاكو في وفدٍ مهيبٍ، يضم (700) من سادة بغداد وأعيانها، وفيهم وزراؤه وحاشيته، خرج ذليلًا مهينًا، قد تحجرت الدموع في عيونه، والدماء في عروقه، خرج من بغداد التي كان أجداده يقودون الدنيا منها، ولـمَّا وصل الوفد إلى هولاكو، منعهم الحرس الملكي من الدخول، حتى يخضعوا للتفتيش الدقيق، ولم يدخل على هولاكو سوى الخليفة، ومعه سبعة عشر من حاشيته، وأُسْدِل السِّتار على البقية، فُقتلوا جميعًا، وبقي الخليفة ومَن دخل معه، ومنهم ابنُ العلقمي، وأدرك الخليفة هنا أنَّ المغول لا عهد لهم ولا أمان، وأخذ هولاكو يأمر الخليفة بما يريد، ومن ذلك أن أمره بإصدار أمر إلى أهل بغداد بإلقاء السلاح، والامتناع عن المقاومة، وأشار بتقييد الخليفة، وسوقه إلى بغداد بأغلاله، كما أمر بقتل ولدي الخليفة أمام عينيه، وأسر بناته.

     أخبر ابن العلقمي هولاكو أنَّ ثمَّ الكثير من علماء السنة ورجالهم ما يزالون في بغداد، فأمر هولاكو الخليفة أن يستدعيهم ليقتلوا جميعًا، فكان الرجل يخرج من بغداد معه نساؤه وأولاده، وأمواله يُخرج به إلى مكان يُحدده المغول فيُقتل على مرأى من أهله، ثم يؤخذ أهله سبايا، حتى أخرجوا أئمة المساجد والخطباء، وحملة القرآن، فقُتلوا كُلُّهم، والخليفة ينظر، وكان قد دهشه علاقة ابن العلقمي بهولاكو، واحترام هولاكو له، وأمر بعدها هولاكو باجتياح بغداد، فدخلها المغول، وأوقعوا فيها من المجازر والمذابح ما يندى له جبين التاريخ، يذكر المؤرخون المعتدلون أن المغول قتلوا في بغداد نحوًا من (800) ألف مسلم، ثم حرَّقوا مساجدها، وهدموا بنيانها، وأشعلوا الحرائق فيها.

     ثم دخل هولاكو قصر الخليفة، فجلس على الميمنة، ولم يجلس على كرسي الخليفة، بل أمر بالخليفة فجيء به، فقال له هولاكو: اجلس مكانك، أنت الـمُضيف ونحن الضيوف، فقم بواجب الضيافة، وصدق الخليفة المسكينُ كلام هولاكو، فأمر لهم بألفين من الثياب، وأهدى لهم الجواهر والدنانير، وغيرها من الهدايا، فكان هولاكو لا يعبأ بها، بل كان يوزِّعها على جلسائه، ثم قال للخليفة: هذا الذي فوق الأرض، فما عندكم تحت الأرض؟ فقال الخليفة: في ساحة القصر حوض من الجواهر والإبريز، فأمر به فحُفر، فوجدوا حوضًا عظيمًا من الذهب، واللآلئ والمجوهرات وغيرها.

     ثم أمر هولاكو أن يحصوا حرم الخليفة، فكان عنده من النساء والجواري نحوٌ من (700)، ومن الخدم نحوٌ من (1000) خادم، فتضرع الخليفة لهولاكو أن يُبقي على نسائه ممَّن لم يرين ضوء الشمس قط، فقال له: اختر منهنَّ (100) امرأة، ثم وُضع في قيده تحت الإقامة الجبرية، وأمر هولاكو بعد أربعين يومًا أن يكفُّوا عن بغداد.

     طلب الخليفة وهو في أسره طعامًا ليأكل، فقدَّم له هولاكو طبقًا فيه ذهب، فقال الخليفة: وهل يُؤكل الذهب؟ فقال له هولاكو: إذا كنت تعرف أنه لا يؤكل؛ لِمَ لمْ توزِّعه على جُندك؟ لِمَ لمْ تحوِّل به أبواب بغداد الحديدية إلى سهام ترمي بها أعداءك؟ لِمَ لمْ تحمِ مملكتك بهذا الذهب؟ لِمَ لمْ تخرج إلى نهر جيحون تمنعني من قدوم بلادك؟ فقال: هكذا قدَّر الله، فقال له هولاكو: وما سينزل بك هو ما قدَّره الله.

     كان من عادة المغول أنهم لا يقتلون الأمراء والملوك، أي لا يريقون دماءهم، بل يخنقونهم خنقًا، أو يرفسونهم بالأرجل، فأمر هولاكو بالخليفة أن يُوضع تحت أرجل الخيل لترفسه، ففعلوا به ذلك، فمات رفسًا بأرجل الخيل، وهكذا سقطت بغداد، وسقطت الخلافة العباسية، وكان ذلك سنة (656هـ)، وكان سقوطها طعنةً قويةً في قلب الأمة الإسلامية.

     لم يكتفِ المغول بخراب عمران بغداد وإحراقها، وهدم حضارتها، بل أمروا بمكتبة بغداد أن تُحرق، وأن توضع في دِجلة، تلك المكتبة العظيمة التي بناها هارون الرشيد، وكان فيها ملايين الكتب الإسلامية، كان فيها عُصارة الفكر الإسلامي كله، عُصارة سبعة قرون، ملايين من كتب الفقه والتفسير والحديث، واللغة والطب، والرياضيات والفلك، والكتب المترجمة من العلوم الأخرى، وضعوها في دِجلة، فتغيَّر لون مائه أيامًا.

     وقد كان الجندي المغولي يعبر إلى ضفة النهر الأخرى مشيًا على تلك الكتب، وذلك لكثرتها، ولم تكن ثمَّ مكتبة تُضاهي مكتبة بغداد في العالم الإسلامي إلا مكتبة قرطبة في الأندلس، وكانت قرطبة قد سقطت بأيدي الصليبيين قبل بغداد بنحو (20) سنة، ولـمَّا سقطت قرطبة أُحرقتْ مكتبتها أيضًا على يد أحد القساوسة، وكذا فعل الصليبيون بمكتبة طرابلس في لبنان، وبمكتبة القدس وغزة لـمَّا دخلوها، وبغيرها من المكتبات الإسلامية، سقطت الخلافة العباسية، وقتل الخليفة العباسي، وضاع مُلك خمسة قرون.

     سقطت بغداد بعد أن ابتعد حكامها عن تحكيم شرع الله تعالى، وانغمسوا في ملذات الدنيا ومتاعها، وتركوا فريضة الجهاد، وكفى بهذا سببًا لسقوط الدول وزوالها، يقول تعالى: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( الإسراء: (آية: 16) سقطت بغداد بعد أن خذلها بعض الأمراء المسلمين من السلاجقة وغيرهم، وآثر بعضهم الدخول تحت لواء المغول في حربهم ضد المسلمين؛ ليبقوهم في إماراتهم، مرتكبين بذلك أكبر خيانة للأمة الإسلامية ولدينهم وعقيدتهم، ولقد كانت الفرق الباطنية في مصر والشام عونًا للحملات الصليبية عليها، أما في بغداد فكان النصارى أعوانَ المغول وعيونَهم، لذا علتهم الفرحة بسقوطها، ونالوا احترام المغول واهتمامهم.

الأيوبيون والمغول

     بعد أن استولى المغول على بغداد، وفعلوا بها ما فعلوا؛ عزموا على اجتياح بلاد الشام من الشمال، فوضعوا أعينهم على الجزيرة الفراتية للاستيلاء عليها، وكان الملك الكامل الأيوبي، حاكم ميَّافارقين([1]) لـمَّا سمع بتهديد المغول لبغداد؛ عمل على تشكيل جبهة شامية، ونجدة بغداد قبل أن يدخلها المغول، فذهب إلى الناصر يوسف الأيوبي، حاكم دمشق آنذاك، وأشار عليه بتسيير جيش إلى بغداد، لكنَّ الأخير لم يوافق على مشروعه، بل آثر الخضوع والخنوع للمغول، فرجع الكامل إلى ميَّافارقين، وعزم على التصدي للمغول، بعد أن بلغه سقوط بغداد([2]).

     لـمَّا وصل هولاكو بجيوشه إلى الجزيرة الفراتية؛ أرسل إلى الكامل يدعوه إلى الخضوع والطاعة، وتسليم بلاده دون قتال، لكنَّ الكامل أبى ذلك؛ لما علمه من غدر المغول وخيانتهم، فحاصر هولاكو ميَّافارقين، وأخذ يوجه ضرباته إليها، تشاركه في ذلك فرق أرمنية، وقوى مسيحية شرقية، فقام الكامل في شجاعة نادرة، يحرِّضُ أهلها على الجهاد والثبات، فاستبسل أهلها في الدفاع عنها، وصمدت المدينة أمام ضربات المغول، حتى أعجزتهم، لكنها لـمَّا طال حصارها، ونفذت أرزاقها، وعمها القحط والجدب، وتهدمت أسوارها، ولم تصلها أيُّ نجدة من المسلمين حولهم؛ سقطت بأيدي المغول، ولما دخلها المغول وجدوا جميع أهلها أمواتًا، إلا الكامل وبعض رجاله، فقبضوا عليه، وقتلوه شرَّ قِتلة، حيث أخذوا يقطعون لحمه قطعًا صغيرة، ويضعونها في فمه، ثم قطعوا رأسه، وطافوا به في البلاد، حتى وصلوا به دمشق، وعلقوه على باب الفراديس[أحد أبواب دمشق السبعة]، وذلك سنة: (657 ه)[ الغامدي، عبد الله سعيد، جهاد المماليك ضد المغول والصليبيين (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، رسالة دكتوراه نوقشت عام: 1407) ص: 75].

     استولى بعدها المغول على مدينة ماردين، وعلى غيرها من مدن الجزيرة الفراتية، وكانت حلب أول مدينة شامية اكتوت بنار المغول، وواجهت عاصفتهم [المصدر السابق، ص: 87]، وبعد سقوطها؛ استولى المغول على حماة، ثم دخلوا دمشق، بعد أن تركها الناصر يوسف الأيوبي، وهرب إلى غزة، وبعد ذلك أصبحت السيطرة على باقي المدن الشامية مسألة وقت لا أكثر.

    في هذا المقام أظهر نصارى بلاد الشام فرحتهم بما حل بالمسلمين، ونادوا بارتفاع دينهم على دين المسلمين، ورشوا الخمر على أبواب المساجد، وألزموا المسلمين في حوانيتهم بالقيام للصليب، ومن لم يفعل أهانوه، وأغصبوه عليه، وأظهر نائب هولاكو تعاطفه معهم، وفرحته بفعلهم [المصدر السابق، ص: 102]، وهرب عامة أهل الشام إلى مصر، لهول ما شاهدوه من بطش المغول وتوحشهم، وكان واقع مصر حينها ينبئ بظهور قيادة جديدة، يمكن أن يعولَّ عليها في مواجهة المغول، وكان حكمها قد آل إلى المماليك.



([1]) تقع الآن في الجنوب الشرقي من تركيا.

([2]( ينظر مشروع الكامل للتصدي للمغول في الشام: الصلابي، السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت (القاهرة: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، ط 1، 1430/2009) ص: 92.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين