سعيد النورسي خزانة تنتظر الاكتشاف

رجب طيب أردوغان1

نوادر البحوث:
 
كلمة الأستاذ رجب طيب أردوغان
يمتاز العالم الإسلامي بتاريخ فكري غني، يمثّل خزانة تربوية وعلمية وأخلاقية، تنتظر لحد الآن من يكتشفها. وبقيت هذه الميزة متواصلة في الأمة عبر تاريخها الطويل، فلم تنقطع سلسلة الفكر في التاريخ الإسلامي في أي وقت من الأوقات، كما يظن ويدعي بعض الأوروبيين.
الإسلام له سمات إيجابية بارزة، تجلت في حياة المسلمين منذ العهد الأول وإلى يومنا الحاضر، تلك السمات التي جعلت العالم الإسلامي، غنيا بالعلماء الأفذاذ، والفلاسفة الدهاة، وعلماء الكلام، والمتصوفة والحقوقيين، وكان لهؤلاء العلماء والباحثين مصنفات علمية رصينة، فكانت لمؤلفاتهم آثار محمودة على التصنيف العلمي من جهة، وإثراء الخبرة التي أغنت بحق تجربة الأسرة الإنسانية، والتاريخ الثقافي للعالم من جهة أخرى.
ولا شك أنّ الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، الذي تركنا قبل خمس وثلاثين سنة (ألقيت الكلمة عام 1995) ملتحقاً بالرفيق الأعلى، هو حلقة مهمة من حلقات هذه السلسلة الفكرية الممتدة الغنية.
ولد الأستاذ النورسي في هذه البقاع، وفيها ترعرع، وقدّم عطاءه الفكري، وقد عرضه من خلال مؤلفاته، إلا أنّ إنسان هذه البيئة (التركية والإسلامية) لم يتمكن -مع الأسف الشديد- من الاستفادة بحق من هذا الصفي المختار.
فتح الأستاذ النورسي عينه في عالم مضطرب، ويا له من اضطراب، دفع إلى انقلاب كل شيء رأسا على عقب، حيث كان تاريخنا المجيد يعيش آنذاك مأزقاً وانعطافاً حاداً للغاية، وكانت الهزائم العسكرية تترى الواحدة بعد الأخرى، وكان مركز الخلافة يتزعزع من أساسه، ووقعت أكثرية بقاع العالم الإسلامي تحت الاحتلال الاستعماري.
كانت تلك المرحلة مضطربة مليئة بسوء الحظ لتفاقم الانحطاط العسكري والسياسي بالنسبة للعالم الإسلامي. وعند إلقائنا نظرة على الحياة الفكرية للعالم الإسلامي في هذه المرحلة نرى غالبية المثقفين، بل يكاد يكون كلهم، قد دخلوا ضمن مجال التأثر الأوروبي، وتَوَقَّفَ المثقفون والسياسيون المتميزون عن النهل من تاريخهم ودينهم، والقيم الأصلية التي مجدتهم سابقاً، واتّخذوا منها موقفا سلبيا، بسبب فقد ثقتهم بأنفسهم، وخرجت قيادة المجتمع من أيدي العلماء، وتولاّها المستغربون ومن سار في ركابهم.
فكان لتولي هؤلاء المتغرّبين قيادة العالم الإسلامي أثر وخيم على حاضر الأمة ومستقبلها، ففشت فيه أسوأ أنواع التشرذم وأقصى درجات الصراع والانقسام القومي والشعبي في العالم الإسلامي، فأصبح العالم الإسلامي مرتعا لجواسيس الغرب، فجالوا وصالوا في كل بقعة من البقاع الإسلامية كيفما شاءوا، وانتهت أعمالهم إلى استفحال الفساد والفتن بين المسلمين، فأصبح العالم الإسلامي وعلى رأسه الدولة العثمانية محاصراً، وضرب عليها خناق الفقر والذل والتعجيز المفضي إلى العجز.
عاش في ظل هذا الجو البائس الأستاذ النورسي، فظهر من رسائله وتصرفاته رجلا متألما بآلام أمّته في هذا العالم العصيب... وفضلا عن ذلك فقد تميّز بمعايشة مختلف الأدوار التي مرت بها المشروطية، وخاصة فترة هيمنة الحزب الواحد، كما عاصر مرحلة تعدد الأحزاب، وقد كان لهذه التجارب المحزنة الغنية بالعبر والعظات دور في صياغة شخصية الأستاذ النورسي، فساهمت في صياغتها صياغة فريدة، دفعته نحو الكمال والتنقيب عن مختلف الحلول الجديدة.
سلك الأستاذ النورسي، كما هو معلوم، في المراحل الأولى من حياته درب السياسة ضمن مقاييس معروفة، عاقداً عليها الآمال الكبيرة، وكان يربط بعض الأحيان آماله هذه بالقصر والسلطان والإداريين.
وفرض عليه هذا الاختيار مقابلة السلطان، وتقديم الاقتراحات له لأجل جمع شمل الدولة العثمانية، إلا أنّه قد رأى فيما بعد أن الانحطاط قد ضرب جذوره في الأعماق، لذا كثّف مساعيه في مجالات أخرى، مجالات أعمق وأغور. وكان يعلم جيداً، أن مثقفي الدولة العثمانية، والطبقة المتميزة قد فقدوا إيمانهم، وانبهروا بمن غلب عليهم من الأعداء، وانجذبوا إليهم، ظانين أن طريق الخلاص في تقليد الأعداء ومسايرتهم.
وبعد أن ثبت لدى الأستاذ النورسي صحة هذا التشخيص الصائب، توجه إلى “الإيمان” كمفهوم منقذ وقدّم له تعريفاً جديداً.
فانتهى الأستاذ إلى أنّ الإيمان هو أكبر مصدر لتحقيق قوة العالم الإسلامي، لهذا لزم شحنه بالطاقة اللازمة. ولئن نجا المسلمون والعالم الإسلامي، فلاشك أنّه لن يكون ذلك ممكناً إلاّ بقوة الإيمان واستيلائه على الأرواح من جديد.
وبالرغم من تركيز الأستاذ بديع الزمان النورسي على الإيمان، فإنّه لم يهوّن من شأن السياسة، حتى أن الفكرة التي ترى أنّه قد اعتبر السياسة ضارةً غير صحيحة يإطلاق كما يتبادر من أوّل وهلة من رسائله، لأنّه قد رأى، وهو محق، أنّ العالم الإسلامي في حاجة لحملة جديدة حديثة، تستمد قوتها وطاقتها من الإيمان والفكر والعلم.
ويؤكّد هذا التشخيص أنّ الحياة السياسية في تلك الأيام لم تراع أيّة قيمة أخلاقية كانت، بل تحولت إلى دهماوية (نسبة إلى الدهماء) وثرثرة وخداع واغتنام فرص منفعية لا غير، فانتهى إلى القول بأنّ مثل هذه السياسة لا تليق بالإنسان المسلم، وهذا مما لا يعترض عليه أحدٌ من الناس.
وفضلا عن الميزات النظرية والفكرية للأستاذ النورسي، فإنّه امتاز بخاصية أخرى ينبغي الوقوف عندها، ألا وهي التوافق الموجود بين فكره وحياته إلى آخر نفس من أنفاسه، فالحق أنه عاش مثلما فكّر وبما آمن به، ولم يطأطئ رأسه لأحد طوال مساره، ولم يتنازل قيد شعرة، ولم يخش أحداً إلاّ الله، فمضت حياته في السجون والمعتقلات والمنافي، ونجاه الله مرات ومرات من حافة الموت، وبالرغم من ذلك بقي ثابتا على مسلك العزة الإيمانية، فلم يخضع لأحد غير الله، فلا شك أنه قدوة للناس كافة من هذه الناحية...
وقد قلت في بداية مقالتي هذه أن الأستاذ النورسي خزانة تنتظر الاكتشاف ككثير من المفكرين والعلماء. فمثلاً أن مثل هذا المؤتمر العالمي الثالث “مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين وبديع الزمان سعيد النورسي” المقام ما بين 24–26 / أيلول/ 1995 قد أتاح الفرصة والفوائد الكبيرة لاكتشاف هذه الخزانة، ولفت الأنظار إلى تراثنا الغني الثري، وخاصة أنظار أولئك الذين ما زالوا يتوجهون إلى أماكن أخرى، يستمدون منها قيم النهضة الحضارية المنتظرة.
الهوامش:
1 رجب طيب أردوغان: رئيس البلدية العامة لمدينة إستانبول، رئيس وزراء تركيا الحالي.
المصدر : موقع مجلة حراء التركية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين