سرُّ هذا الوجود عازبٌ عن كلِّ موجود

الأستاذ: عباس طه

 
إنَّ رقيق الوجدان كلما لمس شيئا أو نظر إلي شي‏ء أحسَّ بوجود الله عز وجل، وكأنَّ شيئا يضرب على أوتار قلبه الحساسة فتشاهد روحه من وراء ستر ذلك المنظور أو الملموس‏ فاعله الذي أثَّر فيه، ومبدعه الذي تجلى بين‏ خوافيه؛ لأن الروح الإنسانية لا تعقل أثراً بدون مؤثر، ولا نظاماً بلا منظم، ولا حكمةً بلا حكيم، ولا سراً بلا عليم، بل وجود الله‏ عز وجل عند الإنسان الذي لم تفسد إنسانيته‏ من أول ما غرس فيه، فهو أوضح بدهياته‏ وأول أولياته،  متى أحسَّ بروحه أحسَّ به‏؛ لأنَّه لا يعقل وجوده بنفسه، فهو مُقترن‏ بوجوده، والإحساس به ملازم للإحساس‏ بنفسه، ولا يمكن أن ينطفئ ذلك منه وإن‏ كان يغفل عنه: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ] {العنكبوت:61}، [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ] {الطُّور:36}، [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190}
إحساس بين أعماق القلوب وطوايا النفوس‏ أقرب إليها من الإحساس بأجسامها؛ لأنها أجنبية عنها يجوز ألا تحس بوجودها كما لا يحس الأجنبي بالأجنبي، وأما وجودها فلا يمكن أن تغفل عنه، ومع وجودها وجوده، وفي أعماقها مفيض وجوده،  وفي أحداقها النظر إليه، ومركوز في طبيعتها التعويل عليه حتى من الكافرين: [وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا] {يونس:12}  .  [وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ] {الإسراء:67}.
وسرُّ ذلك أن طينتها معجونة بمعرفته‏ والملجأ إليه، والإحساس به مفاض عليها من نوره بحيث يجعلها تذهل من نفسها ولا تذهل عنه، فحياتها في الحقيقة بأنسه،  وفرحها ليس إلا بنور قُدسه، فلا يمكن‏ أن يفارقها إحساسه، أو يزاولها إيناسه،  ولكن الناس نسوا الله فأنساهم أنفسهم،  فبقهره وعظمة قدرته أذهلهم عنه وأبعدهم‏ منه، فسبحان من يحول بين المرء وقلبه،  ويضع الحجاب بينه وبين ربه، وهو أقرب‏ إليه من حبل الوريد.
غاية الأمر أنَّ الأوهام البشرية والخيالات‏ الجسمانية التي لا تعرف غير المحسوسات،  ولا تتصوَّر غير المكيفات ولا تعقل غير المحدودات، ولا تفهم غير المتشكلات‏ المحصورات، أرادت أن تعرفه على نحو ما عرفت به مألوفاتها، وهي لا تعرف‏ إلا ما كان مُحدَّداً مقيداً، وهو يعلو عن‏ التحديد والتقييد، فأرادت أن تحصره وهو لا ينحصر، وأن تكيفه وهولا يتكيف،  وأن تقيده وهو لا يتقيد، وأن تنهيه وهو لا يتناهى، فنفر منها وبعُد عنها، فلم تقع‏ عليه، ولم تصل إليه، و نادى منادي‏ العزة: إنك أيتها العوالم السفلية قاصرة عن درك علاه، أو بلوغ سناه، أو معرفة مداه، فليس فيك صلاحية لذلك،  ولا خلقت قابلة لما هنالك، فلك حد مرسوم،  ومقام معلوم، فكما العين لا تدرك الهواء،  وهي واقفة مع رقتها على ما حد لها من درجتها كذلك الخيال لا يَرتفع عن درجة المحسوسات‏ ولا يعلو إلى أفق الروحانيات، ومحال عليه‏ أن يعرف رب الأرض والسموات، الذي‏ جلَّ عن الكيفيات، وعلا عن القياس،  وتنزَّه عن إدراك الحواس.
ولكن فيك أيها الإنسان عالماً يعرف‏ التنزيه، ولا يقف عند التشبيه، فيمكنه‏ أن يستلمع شعاع تلك الأنوار، ويرى‏ عظمة سرادقات الملك القهار، ويلمح بوارق‏ تلك الحضرات، ويكتحل بجمال تلك‏ الإشراقات.
وأما أنت أيتها العوالم السفلية فليس مقرك إلا عالم التحديد، وليس لك‏ من هذا المقام إلا صفة العجز والتقليد،  فقلدي الروح فيما توحيه إليك وتلقيه عليك،  فهي التي تعرف وتعترف، وتسجد وتقترب،  فليعرف كل عالم من عوالمك قدره،  ولا يتجاوز طوره، فإن طلبت أن تعرف‏ عوالمك السفلية فقد طلبت أن تحدده،  والمحدود لا يكون إلهاً للأشياء، بل يكون له‏ ما لها وعليه وما عليها، وما هي إلا نزعة عباد الأصنام، وأسراء الأوهام.
ولعمري لو رجعت إلى نفسك ولم تتقيد بمألوفات حسِّك، لوجدتها أول البدهيات،  وأوضح الواضحات، لا تحسُّ بوجودك‏ إلا أحسست بوجوده، غير أنك لا تعرف‏ التحديد ولا تقع عليه بالتكييف، والإله‏ يجب أن يكون كذلك، وإلا لم يكن إلهاً كما قلنا.
بل أقرب لك الأمر: بأن روحك‏ وهي التي أمدَّتك بكل شي‏ء، وأفاضت عليك‏ كل شي‏ء، ولست شيئا إلا بها وما أنت‏ إلا هي، ومع ذلك لا تعرفها ولا تحيط بها لمزيد لطافتها، وخروجها عن عالم التقييد والتكييف: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85}، فما بالك تطمع في إدراك اللطيف‏ القدوس سبحانه الذي فوق كل شي‏ء، وما يماثله شي‏ء!.   جلَّ أن تشبهه الملائكة، أو تماثله الروح‏: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح».
بل أنزل بك إلى ما هو أقرب من هذا،  فإنه لا يمكنك أن تعرف عالم الجن؛ لأنك‏ لا تستطيع أن تعرفه، بل لديك من الماديات‏ التي بين يديك وتحت أمرك وتصرفك ما لم‏ تصل إليه ولم تعرف كنهه، مثل الكهرباء والمغناطيس، بل لم يعرفوا حتى الآن ما هي‏ المادة وما حقيقتها، إلى آخر ما قرره العلماء من مواقف العقول التي خرُّوا لها ساجدين،  وظلوا أمامها مبهوتين مع أنها من العالم‏ الكثيف لا من العالم اللطيف، ومن الماديات‏ لا من الروحانيات، فما أجدرني أن أنشد قول الغزالي:
قل لمن يفهم عني ما أقول‏                     قصر القول فذا شرح يطول‏
ثَمَّ سر غامض من دونه                         ‏ قصرت والله أعناق الفحول
هذا وما تدركه القلوب وتشاهده البصائر أكبر من كل ما يقال، ومن ذاق نور الوجود الحق بوجدانه وأدرك الأمر من أصله فهو غني عن البيان، ومن وصل إلى حد العيان‏ فلا حاجة به إلى البرهان.
وعلى كل حال فنطاق‏ التعبير قصير مهما بالغ صاحبه، فارجع إلى‏ نفسك تجد الأمر أوضح من الشمس وأبين‏ من الحس، وإذا عرفت الأمر من نفسك‏ وجدت كل شي‏ء بعد ذلك أكثف من ذلك‏ الوجدان، ولا معنى لأن تطلب شيئا تجده‏ في نفسك وتحسُّه في أعماق قلبك.
ولا بأس أن نورد هنا بدهيات محسوسة وتجارب ملموسة، ذلك أنَّ الحيوان إذا ضربه‏ ضارب، التفت لينظر الضارب؛ لأنه‏ لا يجوز أن يوجد ضرب بلا ضارب. فمن‏ أنكر وجود الله وهو يشاهد آثار صنعته‏ ومظاهر قدرته وبدائع حكمته فلا يستحق‏ أن يسلك في عداد الآدميين: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ] {يونس:39} »، [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ] {ق:16}، [إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا] {الإسراء:7} .
اللهم يا من ليس في السماء من قطرات، ولا في الأرض من حبات، ولا في هبوب الريح‏ من ولجات، ولا في قلوب الخلق من خطرات‏، ولا في أعضائهم من حركات، ولا في أعينهم‏ من لحظات، إلا وهي لك شاهدات، وعليك‏ دالات، وبربوبيتك مُعترفات وفي قدرتك‏ مُتحيرات. فأسألك يا الله بالقدرة التي تحير بها الأرض والسموات، أن تملأ قلوبنا يقيناً، وأن ترزقنا حُبَّك وحبَّ من أحبك،  وحبَّ ما يقرِّبُنا إلى حبك، وألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين بمنك وكرمك.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر، السنة الخامسة والثلاثون، صفر 1386هـ ، الجزء الثاني.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين