سِر مسار السنن!

سؤالٌ ذكي:

لِمَ تَجْرِ السنن الإلهية في بادي صورتها على خلاف ظَنِّ عباد الله المكلفين؟!

قلت: اعلم أولًا أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ الحياة الدنيا دارًا يَخْتَبِرُ فيها عباده أيُّهم أحسنُ عملًا، وخيرٌ أملًا، وَجَرت عادةُ البشر أن يجلس المُخْتَبَرُ في قاعةِ امتحانه ساعةً أو ساعتين، وعند التأمل نَجد أنَّ الله جعل أَمَدَ اختبار الدنيا كلِّه بِقَدَرِ امتحانات اليوم، وَبِأَعلى تقدير لا يزيد عن يومٍ أو بعض يوم!

يؤيد هذا أن القرآن الكريم لما حدثنا عن أمد الدنيا أشار إلى أنها كَسَاعةِ تعارفٍ بيننا، فقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، أو أنها كَمُفتَتَح النهار وَمُخْتَتَمِه؛ لقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]، بل إنَّ الله جعل الفترةَ البرزخيةَ التي يظنها العبادُ طويلةً دقائق معدودة؛ كَزِيَارةٍ عَابرةٍ محدودة؛ فإن هذا تعبير القرآن عنها بقوله {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2]!!

ولعلَّ المُتَيَقِّظَ لِقُرب قيام الساعة يدرك سر المسألة؛ فقد {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي مسند الإمام أحمد من حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي "! مسند أحمد، رقم الحديث (22947)، (38/36).

وأخرج أيضًا من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن " صَاْحِبَ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَأَصْغَى السَّمْعَ مَتَى يُؤْمَرُ "! مسند أحمد، رقم الحديث: (19345)، (32/91) وقال الألباني: صحيح. في صحيح الجامع الصغير رقم الحديث: (8721).

وأخرج الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إِلَّا حِرْصًا، وَلَا يَزْدَادُونَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا " الحاكم / المستدرك على الصحيحين (4/325)، وهذا مَا دَلَّ عليهِ قولُ الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]!!

وقد ذكر علماء الفيزياء أمرًا عجبًا مفاده:

أَنَّ الدُّنيا لو قَدَّرْنَا أمدها سنة كاملة؛ فإن آدم خُلِقَ قرابة الساعة الثالثة مساءً من آخر يومٍ فيها؛ لِتَكُون الدنيا كلها لا تزيد عن ساعاتٍ أربعٍ أو خمسٍ، يؤيد هذا قول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]!

وعليه لما كان الامتحانُ قصيرَ الأمدِ، كان لابد فيه من النَّصَبِ والكَبَد، وَمُلاقاة الصِّعَاب، وألوان الاغترابِ والاضطراب؛ لِيتميز الخبيث من الطيب، والرديء من الجيد، فكان من عَلائِمِ التَّمايُزِ بينهما أن تَجْرِي سننُ الله تعالى بِعَكسِ بَادِي الرَّأْي، وظاهرِ العقل!

واسترسالًا في الإجابة أهديك قانونًا انبنى على قِصَرِ أمد اختبار الحياة الدنيا، وأقدمه إليك على هيئةِ وَاحِدَةٍ..

من فرائد الفوائد

إِنَّ الجنَّةَ لمَّا كانت أكبرَ دَرجاتٍ وَأكبرَ تفضيلًا؛ نَاسب أن يجري قانونٌ آخرُ في رحلة البشرية في هذه الحياة الدنيا، وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:

" حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ "! صحيح مسلم، رقم الحديث: (7308)، (8/142).

وَبِضَمِّ هذا القانون لأخيه من قَبْلِه؛ يتميز الصَّادق من المُنَافِق، وقد ازددتُ عشقًا لابْنِ القَيِّم الذي دَلَّنَا علَى قَانُونِ التعامل مَعَ هذا القانون، فقال:

إنَّ العاقل الكَيِّسَ لَيَرَى المَنَاهِي كَطَعامٍ لَذِيذٍ كَالعَسَل، قَد خُلِطَ فيه سُمٌ قَاتل، فَكُلَّمَا دعتْهُ لذَّتُهُ إلى تناولِهِ؛ نَهاهُ ما فيه من السُّم، وإنه لَيَرَى الأوامر كَدَواءٍ كَريهِ المَذاق، مُفْضٍ إلى العَافِيةِ والشِّفَاء، وَكُلَّمَا نَهاهُ كَراهةُ مَذاقِهِ عن تناوله؛ أمرهُ نفعُهُ بالتناول! ابن القيم / الفوائد ص (137).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين