سد الذرائع بالمقلوب

أبو عبيدة

سد الذرائع أو درء المفاسد يمثل الحجر الأساس في الفتاوى السلطانية التي نسمعها كل يوم من المعوقين لحركة التغيير على امتداد الوطن العربي ،ومفادها أن هذا الاعتراض أو رفض الظلم –ولا أرغب مبدئيا بتسميته خروجا على الحاكم لالتباس هذا المصطلح وتحميله معان فيها الكثير من الخلط وعدم الوضوح- سيؤدي الى قتل المعترضين واستباحة أموالهم وأعراضهم ،وفي هذا مفسدة عظيمة يجب تجنبها ، ولا يتحقق ذلك الا بالسكوت على الضيم وشل حركة التغيير والتاريخ.
اذن فنحن بين طرفين :معترض على المظالم وظالم لا يثنيه شيئ عن ارتكاب أي شيئ ،والفتوى السلطانية أن يسكت المظلوم حفاظا على حياته التي قد لا تكون جذابة ولا مقبولة حتى بالنسبة اليه .
ولكنني أرى أن المسألة يجب أن ينظر اليها من باب سد الذرائع نفسه ،ولكن بطريقة أخرى ،فالأنظمة الاستبدادية تمارس جرائمها و(مفاسدها) منذ عقود وعلى كل الأصعدة ،الأمنية وغير الأمنية ،تخريب وسرقة وظلم بكل الألوان والأشكال وتهديم وتشويه للانسان وأخلاقه وقيمه وقدرته على العمل والانتاج ،وأركز هنا على التشويه الثقافي والفكري والأخلاقي الذي انحرف بالقواعد العريضة من الشعوب الى أسوأ حالات التردي والضياع ،فنحن أمام أجيال اليوم فقدت جواهرها وملامحها الاسلامية وحتى العروبية والانسانية ،ربيت في مدارس وطالعت اعلاما لم يترك فيها خصلة خير ،أليست هذه مفاسد يجب درؤها بأسرع وأقوى الطرق والامكانات ،لأننا بصدد أمة تنهار وأجيال تسقط ودين أعزنا الله به ولا يتورع السلطان من الاساءة اليه والينا .
سد الذرائع في الفتاوى السلطانية اذن هو سد ذرائع بالمقلوب ،وهو لا يتفق مع فهم أي طالب شرعي مبتدئ للمقاصد العامة للشريعة ،فمن قال أن الحفاظ على النفس والحياة مقدم على الحفاظ على الدين والعرض والعقل (بمفهومه الثقافي والأخلاقي ) والمال والكرامة التي هي مقصد هام للشريعة الاسلامية بمنطوق القرآن الكريم .
قد يقال أن هؤلاء الشباب الذين تصفهم بأنهم مشوهون أخلاقيا وقيميا ،وفاقدون للجواهر والملامح الاسلامية والعروبية والانسانية ،هم من ثاروا على الظلم وزلزلوا الأرض التي بقيت نائمة عقودا تحت أقدام البغاة ،أقول ان منطق التاريخ لمن يستقرئه أن الثورات يقوم بها المسحوقون تحت أقدام الظلمة ،الجائعون والمحرومون واليائسون من كثرة الأبواب الموصدة في وجوههم ،ثم يأتي من يركب هذه الثورات ليجعل لها فكرا ومنهاجا وأهدافا وقيما ،فيحرفها ذات اليمين أو ذات الشمال ،وقد عبر عن ذلك الكاتب الكبير علي أحمد باكثير في روايته (الثائر الأحمر) التي تروي فتنة القرامطة ،هذا من جهة ومن جهة أخرى أليس لله من الجنود مالاتراه الأبصار ومن التدابير مالا تحيط به المدارك ،أليست سنة الله في أرضه أن يبطش بالظالم ويخسف بالطاغية ولو بعد حين ؟من كان منا يتصور أن يخرج الناس في الشوارع عراة الصدور يصرخون بما كنا لا نقدر على أن نتهامس به ؟ من هنا صح القول أن الثورات الأصل فيها أنها عمياء ،وأنها بحاجة الى من يمسك بيدها ويدلها على الطريق ، وهنا يقال إن كل قوى البطش لاتقدر على محو الفطرة التي تعشق الكرامة والعزة ، ولا يزال أمر الإذلال مهيمنا على النفوس ما دامت مرعوبة من وحشية المتسلط ، ولكن للصبر حدود ، وإذا ما نفد انطلقت شرارة النفوس من مكامن العزة الحبيسة ، فتحرق وتغرق ، وهذا ما يفسر لنا أن الإفساد مهما تجبر، فإنه لا يقتل ما في أعماق النفوس من الفطرة ، أجل اشتعلت الجذوة التي خنقت بأدخنة الأقبية والعسف الوحشي ، وهيهات أن تطفأ حتى تستريح إلى أن الظلم قد أمسى رمادا، وأن ظلام القهر قد اكتسحه نور الصباح!!
ثم إن سد الذرائع الثاني الذي يتحفنا به أصحاب الفتاوى السلطانية هو الخوف من الاستعمار الأجنبي والتدخل الدولي وتقسيم البلاد وتفريق العباد ،وهو أيضا سد ذرائع بالمقلوب ،لأنه يعتمد على مغالطتين كبيرتين ،الأولى أن حامي الحمى وضامن الوحدة الوحيد هو السلطان القائم اليوم وأن كل من عداه يفترض فيه أنه سيكون خائنا وعميلا ،وافتراض الاخلاص في شخص واحد من بين ملايين افتراض مرفوض منطقيا ،ان لم نطالع ونشهد ماجرى خلال العقود المنصرمة مما يكذب هذا الافتراض ،و المغالطة الثانية أن السلطان القائم اليوم هو حر لا ينفذ الا ارادة شعبه ومايراه من تحقيق مصالحه، دون وجود أية مساومات دولية ،فمن قال أننا لسنا مستعمرين وأن الاستعمار لن يأتي الا مع طلب الجائع للرغيف وحرص الأب والأخ على شرف ابنته وأخته.
منذ أن بدأ مسلسل الربيع العربي طلع علينا المفكر المصري الشهير جلال أمين وهو مفكر ليبرالي محترم ،قال أن حركة التغيير ستمتد عبر الوطن العربي في مدة قدرها بخمسين سنة ،وأننا أمام انقلاب فكري وقيمي قبل أن يكون ثورة على الظلم ،هذه النقطة التي أرى أن على مشايخنا الأفاضل أن ينتبهوا اليها ،في الفكر الشيوعي يميز مفكروهم بين البروليتاريا والانتليجسيتيا ،أي الطبقة العاملة غير المؤهلة ثقافيا والمثقفون الذين يحددون هوية وملامح التغيير ويقودون العمال ، نحن اليوم أمام شعوب ثارت على الظلم ولكنها غير مؤهلة ثقافيا وفكريا وأخلاقيا ،وهناك نخب تتسابق لقيادة هؤلاء وتفصيل الميثاق الفكري القيمي السلوكي لهم ، من هنا وجب على مشايخنا الأفاضل أن يصوغوا خطابا اسلاميا ينافس خطابات الآخرين حتى لا تنحرف الأجيال باتجاه نجوم المعارضة اليوم من العلمانيين .
انني أخشى على أولادي وأحفادي أن يأتي يوم يتحدثون فيه عن شنق آخر سلطان ظالم بأمعاء آخر شيخ سلطاني ،وأخشى عليهم أن يحملوا في المستقبل القريب كتبا تذكرنا بالكتب الحمراء التي كانت تملأ شوارعنا وبيوتنا وحتى الأرصفة مما كان يعتبر فكر الثورة والعدالة الاجتماعية .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين