(ساحر عليم)

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على محمد خاتم رسله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وبعد:

فمن يطالع قصة موسى عليه السلام في القرآن يلاحظ الارتباط بين لفظي (ساحر) و(عليم)، فلا يكاد يأتي لفظ ساحر حتى يتبعه الوصف بـ (عليم)، كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس: 79].

وقال حاكيا عن قوم فرعون: {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 109 - 112].

يقول الفخر الرازي: "وذلك لأن السحر كان غالبا في ذلك الزمان، ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة، ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه، فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة" [مفاتيح الغيب 14/ 330].

فيفهم من ذلك أن كلمة (عليم) لا تزيد على كونها صفة ونعتا لكلمة (ساحر)، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فقوم فرعون بعدما تأكدوا أن موسى عليه السلام ليس ساحرا، بعد هزيمة السحرة، وإنزال الله تعالى الآيات التسع التي ضرب بها أرض مصر، ذهبوا إلى موسى عليه السلام يطلبون شفاعته حتى يرفع الله تعالى عنهم الضر، ونعتوه بالساحر، قال الله تعالى: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: 48 - 50].

ومما جاء في تفسير وصفهم موسى عليه السلام بالسحر أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر: ساحر، لأنهم كانوا يستعظمون السحر، وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر. [انظر مثلا: مفاتيح الغيب للرازي 27/ 637].

وقال الأزهري: "يقول القائل: كيف قالوا لموسى: يا أيها الساحر وهم يزعمون أنهم مهتدون؟ فالجواب في ذلك أن الساحر عندهم كان نعتا محمودا، والسحر كان علما مرغوبا فيه، فقالوا: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} على جهة التعظيم له، وخاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر؛ إذ جاء بالمعجزات التي لم يعهدوا مثلها، ولم يكن السحر عندهم كفرا ولا كان مما يتعايرون به، ولذلك قالوا له: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ}" [تهذيب اللغة 4/ 171].

وفي الصحاح للجوهري: "والساحر: العالم" [الصحاح 2/ 679].

لكن كيف يكون من معاني كلمة الساحر: العالم؟

ينبغي الإشارة إلى أن الألفاظ تمر في كل لغة بمراحل، وفي كل مرحلة تكتسب دلالة جديدة، أو تفقد دلالة قديمة، وهو ما يسمى توسع الدلالة أو ضيقها، مثل كلمة الصلاة، فهي في اللغة بمعنى الدعاء، ثم ضيقت دلالتها لتدل على العبادة الموقوتة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، والحج الذي يعني القصد، ثم صار هذا القصد مقصورا على قصد البيت الحرام لأداء المناسك.

وكذلك كلمة السحر، فقد كانت تعني في مرحلة ما من مراحل اللغة العربية العلم، ثم ضيقت دلالتها لتدل على هذا اللون من العلم، وصار الذهن لا ينصرف عند ذكر الكلمة إلى غيره، وقد كانت هذه الكلمة مستخدمة في معناها الأول إلى ما قبل الإسلام بنحو خمسة قرون، فقد وردت في نص كتابي مع ترجمتها: (كان مع الوالي سرجيوس بولس، و هو رجل فهيم، فهذا دعا برنابا وشاول، والتمس أن يسمع كلمة الله، فقاومهما عليم الساحر - لأن هكذا يترجم اسمه - طالبا أن يفسد الوالي عن الإيمان) [أعمال الرسل 13/ 7 - 8].

ففي هذا النص يشير إلى أن ترجمة كلمة عليم تعني الساحر، وذلك لأن النص مكتوب غالبا باللغة اليونانية، فذكر كلمة (عليم) التي تطلق على هذا الرجل اليهودي، ثم أتبعها بذكر معناها في اليونانية وهو (ساحر)، وأشار جيمس سترونج إلى أن هذه الكلمة (عليم) من أصل أجنبي [Dictionary of the words in the greek testament p27]، كما يشير ناشرو الطبعة اليسوعية من الكتاب المقدس إلى أنه يرجح أن هذه الكلمة من أصل سامي يعني أخفى.

ما يهمنا على كل حال هو ذلك النص بوصفه وثيقة تذكر اللفظ مع ترجمته بما يوافق ما ورد في القرآن الكريم، ويمكن أن نستنبط بعض النتائج:

1. أن كلمة الساحر وكلمة عليم كانا في مرحلة ما من مراحل اللغة العربية لفظين مترادفين، فعليم كانت تترجم بالساحر كما في سفر أعمال الرسل، والساحر كانت تطلق على العالم كما ورد في سورة الزخرف، ثم خصص السحر بالخدع والتمويهات.

2. أن السحرة زمن فرعون كان ينظر إليهم على أنهم هم العلماء الذين يعلمون دقائق الأشياء، ولذلك وصفوا موسى عليه السلام بأنه ساحر عليم، وفهمنا أن كلمة عليم مع وقوعها صفة أو نعتا لكلمة ساحر، أشارت إلى ذلك الأصل اللغوي.

والله أعلى وأعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين