سألوني عن جبهة النصرة

 

 

 -10-

 

الأمر السابع الذي نطلبه من جبهة النصرة هو التوقف عن "العربدة الثورية". هذا التعبير قاسٍ وقد يصدم كثيرين، لكني لم أجد أفضلَ منه لوصف الممارسات البشعة التي تمارسها النصرة بحق المدنيين والناشطين الثوريين والفصائل العسكرية الصغيرة في المناطق المحررة التي تخضع لسيطرتها في الشمال.

 

من أكبر مظاهر وتجلّيات "العربدة الثورية" التي نطالب جبهةَ النصرة بالإقلاع عنها فرضُ الإتاوات على الفصائل الصغيرة الضعيفة، فهي ترى ما يصل لتلك الفصائل من سلاح وذخيرة حلالاً لها يجوز نهبُه والاستيلاء عليه بالقوة، فصار من سنّتها الدارجة أن تصادر نسبة منه تتراوح بين عشرين بالمئة وسبعين بالمئة، فكلما كان الفصيل أضعفَ وأقل قدرة على الدفاع عن نفسه زادت الإتاوة، عملاً بقانون الغاب الذي شرعته جبهة النصرة وأباحته لنفسها: "القوي يأكل الضعيف".

 

ومن "العربدة الثورية" التي نطالب جبهة النصرة بالإقلاع عنها اقتحامُ القرى بالأرتال العسكرية، ومصادرةُ أملاك الثوار الذين حاربوا النظام ثم حاربتهم النصرة بحجة أنها أملاك مرتدين، واقتحامُ البيوت الآمنة بحجة اعتقال مطلوبين مع ما يصاحب هذا الاقتحامَ من ترويع للنساء والأطفال وعدوان على الأبرياء، والاعتقالُ العشوائي الذي يطال مدنيين وثوريين وإعلاميين ودعاة وخطباء وقادة وعناصر في الفصائل المختلفة، حتى صارت سجونها ملأى بالأبرياء الذين بلغ عددهم ألفاً إلاّ خمسين، بينهم نساء وأطفال!

 

إن النصرة تتصرف في المناطق المحررة وكأنها جهاز أمني من أجهزة النظام الأسدي، فتبيح لنفسها ملاحقة كل من يعارض ممارساتها وسياساتها أو يخالف منهجها الفكري. وقد تسببت ملاحقتُها للدعاة والخطباء في تفريغ المناطق الخاضعة لسيطرتها من أهل العلم الذين يحملون مناهجَ دعويةً وفكرية تخالف منهج القاعدة المعروف، ووقع كثير من الأبرياء ضحيةً لممارساتٍ ظالمة قام بها جهازُها الأمني خارج القضاء، وهو يشبه الأجهزةَ الأمنية التي عرفناها في نظام الأسد من حيث الاعتقال التعسفي والتحقيق والتعذيب الذي وصل إلى الموت في بعض الحالات.

 

بل إن الجهاز الأمني في النصرة بلغ درجة غريبة من العربدة وصلت به إلى الاستهتار بقضاء النصرة ذاته والاعتداء الصارخ على قراراته وأحكامه، وما قضية أبي حسين رحال عنا ببعيد، حيث صدر الحكم ببراءته من دار القضاء التابعة للنصرة، ثم قام أحد أمنيّي النصرة بخرق الحكم واعتقال أبي حسين لاعتبارات عائلية عصبية جاهلية، وسكتت قيادة النصرة عن الحق مجاملةً لأمنيّها الباغي، لأنها تطبق شريعة "إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد".

 

كنا نقول إن الداخل إلى سجون النظام مفقود والخارج منها مولود، وللأسف فإن هذه "العلامة المسجَّلة" صارت مشترَكة بين النظام الأسدي وجبهة النصرة بعد حوادث كثيرة مؤلمة، ليس آخرَها اعتقالُ أبي عبد الله الخولي الذي يعلم الناس وتعلم جبهة النصرة أنه بريء، ثم تصرّ على تلفيق التهم الباطلة المضحكة بحقه للاستمرار في اعتقاله، والله وحده يعلم إن كان ما يزال في الأحياء أم أنهم قتلوه غيلة وغدراً كما صنعوا بغيره من الأبرياء.

 

لذلك لم يكن مستغرباً هتاف أهل الأتارب الغاضبين ذات يوم: "النصرة صارت جوية"!

 

إننا نطالب النصرة بأن تتوقف عن كل المظاهر الظالمة التي سردتُها آنفاً، التي تكررت مئات المرات وضَجّ منها الناس. نطالب النصرة بالتوقف عن ملاحقة المعارضين لسلطانها والمنتقدين لتجاوزاتها في المناطق المحررة، نطالبها بإطلاق سراح الأبرياء من السجون والتوقف عن الاعتقال العشوائي والتعذيب الوحشي في السجون، نطالبها بالكفّ عن حماية المعتدين الذين ينتسبون إليها والتوقف عن حمايتهم وتهريبهم من القضاء.

 

إننا نطالب جبهة النصرة بأن تتوقف عن استغلال قوتها في الظلم والبغي والعدوان.

 

-11-

 

الأمر الثامن الذي نطلبه من جبهة النصرة هو التواضع ولين الجانب وخفض الجناح، وترك التكبّر والعُجْب والعلوّ على عباد الله.

 

أقسمَ لي أحد المجاهدين أن شاباً صغيراً من أقاربه كان جاهلاً بعيداً عن الدين لا يكاد يعرف المسائل الأولية في الطهارة والصلاة، ثم انضمّ إلى جبهة النصرة وشارك في دورة شرعية مدتها ثلاثة أسابيع، فلما خرج منها بدأ يوزع الاتهامات على المجاهدين، فهؤلاء يعانون من خلل في العقيدة وأولئك من أخطاء في المنهج، وهذا مرتدّ وذاك عميل. قال: وكانت الصفة الغالبة عليه وعلى أكثر أصحابنا -الذين كانوا معنا في الفصيل ثم تركونا وانضموا إلى النصرة- هي الكِبْرَ والعُجب اللذين يشعّان من العيون وتنطق بهما ألسنة الحال والمقال، وبعضهم يكاد لا يسلّم ولا يردّ السلام.

 

إذا كانت قيادة جبهة النصرة تحمل وزر الأخطاء التي وصفتُها في المقالات السابقة فإن هذه الكبيرة يحمل وِزرَها عناصرُ النصرة. لا أقصدهم جميعاً بالتأكيد، معاذ الله، وقد سبق أن وصفت بعض مَن أعرف من شباب النصرة بأنهم من أفضل المجاهدين خُلُقاً وديناً وجهاداً، ولكنْ يوجد في مقابلهم عددٌ كبير جداً ممّن تلبّسوا بكبيرة الكِبْر من عناصر النصرة؛ يحسبون أنهم هم الصفوة وسائر المجاهدين حُثالة، ويرون أنهم حَمَلة المنهج القويم وغيرهم في ضلالة، بل يكادون يُشعِرون عامّةَ الناس بأنهم هم المسلمون الوحيدون الذين يحملون رسالة الإسلام في هذا الزمان!

 

هذا التعالي صنعَ بين النصرة وعامّة الناس في مناطق سيطرتها جفوةً كبيرةً ما تزال تتسع يوماً بعد يوم، وزادها سوءاً أنّ قيادات ومحاكم النصرة استكبرت على الخلق ورأت نفسَها من معدن مختلف لا يُقاس عليه الناس، فلم تُنْصفهم من نفسها وطبّقَت قاعدتين في التحاكم: قاعدة لها وقاعدة لبقية الناس. فأما القاعدة التي لها فإنها قاعدة "إذا سرق فيهم القوي تركوه"، وأما القاعدة التي للناس فهي قاعدة "إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد". لذلك تجبّر أمنيّوها وشرعيّوها وأكلوا حقوق العباد، ولم يُسمَع أن النصرة عاقبت مسيئاً أو معتدياً من عناصرها أو أنها أنصفت عامّياً من العامة من شرعيّ أو أمنيّ أو أمير، فعلمنا أن عناصر وقيادات النصرة وأمنيّيها ملائكة لا يخطئون، أو أنهم يخطئون ولكنهم فوق الحساب والعقاب.

 

ومن مظاهر هذا الكبر والاستعلاء أن النصرة ترى مَن قرأ أربع ورقات في كتاب من كتب الفقه أعلمَ ممّن صرّم شطرَ عمره في طلب العلم، إذا كان الأول منها والثاني من غيرها. فكان أن نصبت على الناس في المناطق التي تسيطر عليها شرعيين وقضاةً كثيرٌ منهم أقربُ إلى الجهل منهم إلى العلم. حتى إنني أعرف شرعياً من شرعيي النصرة في إدلب لم يُتِمّ المرحلة الإعدادية، وهو تاجر سلاح سابق، ويبيح لنفسه أن يصدر أحكاماً بتكفير فصائل برمّتها، بل إنه نُقل عنه تكفير قرى كاملة في ريف إدلب!

 

وأكثرُ هؤلاء القضاة والشرعيين من الذين يُسمَّون مهاجرين (والأَولى أن يُسَمَّوا أنصاراً إن كان ولا بد، لأنهم جاؤوا إلى الشام نصرةً لأهل الشام كما يقولون) وهؤلاء يجهل أكثرُهم المذهبَ الفقهي الشائع في سوريا ويخالفونه عمداً أو جهلاً أو مكابرة، وهم يميلون غالباً إلى الشدة والقسوة والتسلط على الناس، وإلى التدخل في خاصة شأنهم فضلاً عن الشأن العام.

 

ومن أسوأ مظاهر الكِبر والاستعلاء تخوين الفصائل المجاهدة، وهو أمر سمعناه من الجولاني نفسه في لقائه مع قناة الجزيرة، ثم قرأناه مضاعفاً في مقالة الخارجيّ التكفيري أبي فراس السوري، التي لم تتملص منها جبهة النصرة ولم يصدر عنها أي استنكار لما ورد فيها من كوارث وطامّات.

 

-12-

 

الأمر التاسع الذي نطلبه من جبهة النصرة هو المشاركة في عبء الحرب كاملاً، هجوماً ودفاعاً واقتحاماً ورباطاً، والتوقف عن سرقة الانتصارات وعن التهويل الإعلامي الذي اشتُهرت به داعش والذي تسير النصرة على أثره.

 

قليلون جداً من قرّاء هذه المقالة يعلمون أن أربعة أخماس الجهاد في سوريا هو رباطٌ على الجبهات، والخُمس الخامس وحدَه هو الاشتباكات والاقتحامات. ولا يعلمون أيضاً أن النزيف الأكبر للفصائل -في الأفراد والذخيرة- هو بسبب الرباط الذي يمتصّ هجمات العدو المتكررة على الجبهات يوماً بعد يوم بهدف اختراقها وإعادة احتلال المناطق المحررة. وأقل القليل من هؤلاء القليل مَن يعلم أن النصرة تعتمد سياسة عامة تطبقها في كل المناطق مع استثناءات قليلة، قليلة جداً، وهي رفض المشاركة في الرباط والاقتصارُ على المعارك والاقتحامات.

 

لماذا؟ لأن كلفة الرباط العالية ليس لها مردود مفيد، أما الهجوم فإنه مربح جداً، فمقابل بضعة استشهاديين تحصل جبهة النصرة على حصة كبيرة من الغنائم! وقد صار مألوفاً للفصائل كلها أن النصرة تصرّ -قبل الموافقة على الدخول في أي معركة- على اختيار المحور الذي يضمن أكبر قدر من الغنائم، وما قصة معركة الحامدية ووادي الضيف عنا ببعيد، فاسألوا المجاهدين الذين شاركوا فيها من حركة أحرار الشام يُطْلعوكم على التفاصيل العجيبة، ويخبروكم عن مناورات وألاعيب لا تجوز في شرع ولا قانون للاستئثار بأكبر قدر من الغنائم. وفي غير الحامدية من القصص ما يسوّد عشرات الصفحات.

 

إننا نطالب جبهة النصرة بأن تشارك في الرباط على الجبهات ولا تُلقي هذا العبء المُستنزِف الثقيل على الفصائل الأخرى، ونعيد تذكير جبهة النصرة (التي ما جاءت إلا لنصرتنا) بأنّ من أهم مظاهر النصرة الحقيقية الرباط على الجبهات وإخلاء المدن من المقرّات. فما للنصرة قد زرعت مقراتها في كل قرية ومدينة ونشرت حواجزها على مداخل المدن ومخارجها كما صنعت داعش يوم بدأت باحتلال المناطق المحررة قبل سنتين؟ هلاّ نقلت ثقلها الحقيقي من المدن إلى الجبهات وتركت الحكم وانشغلت بالقتال؟

 

أما سرقة الانتصارات فقد صارت حالة مزمنة يشكو منها الجميع، فإن الفصائل تعلم سلفاً أن المعركة التي تشارك فيها النصرة ستُجيَّر إعلامياً لصالح النصرة وسيُمحى أي ذكر لغيرها. وليت جبهة النصرة اكتفت بالسطو على الانتصارات التي شاركت في صنعها مع غيرها، بل إنها تجاوزتها إلى سرقة انتصارات لم يكن لها فيها سهم ولم تطلق فيها رصاصة، كحادثة معبر نصيب المشهورة، يومَ اقتحم مسلّحو النصرة المعبر (الذي لم يشاركوا في تحريره ولا بطلقة واحدة) اقتحموه بقوة السلاح ليحصلوا على صور استعراضية تُظهر عناصر النصرة وراياتها، حتى ظن كثير من أنصار النصرة أنها هي التي قادت المعركة وحققت النصر!

 

ولو أن الأمر وقف عند سرقة الانتصارات لهان الخطب، ولكنّا وجدنا أن جبهة النصرة تسرق التحالفات وغرَف العلميات التي تنضم إليها، كما صنعت مع جيش الفتح. وهو في الأصل غرفة عمليات وليس اتحاداً بين الفصائل، ولكن الاسم أوحى للعامة بأنه تكتل عسكري موحَّد، واستغلت جبهة النصرة وجودَها فيه فنشّطت المعرّفات والحسابات التويترية والفسبوكية حتى كرّست في أذهان الناس أن جيش الفتح هو جبهة النصرة، فلا يكاد أحدٌ يتذكر اليومَ أن النصرة واحدةٌ من سبع مجموعات تشكل هذا الكيان، وأن عدد مقاتليها فيه يتراوح بين ربع وخُمس عدد مقاتليه.

 

إذا كانت جبهة النصرة جزءاً من هذا الجسم الكبير فلماذا غطّت سماءَ إدلب بأعلامها السوداء، فكانت تلك رسالةً أرسلتها للعالم بأنها هي جيش الفتح وأنها الطرف المسيطر على المدينة وأنها صانعة الانتصار؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين