سألوني عن جبهة النصرة -2-

 

-4-

 

بعد المقدمات السابقة أدخل في صُلب الموضوع ولُبّه: ما هي مآخذنا على جبهة النصرة وما الذي نطلبه منها؟ لن ننشغل بالفروع والصغائر التي يُتوقَّع صدورُها عن أي فصيل، يكفي أن نركز على المسائل الكبرى، وسوف أعرض واحدةً منها في كل حلقة من هذه المقالات.

 

أول ما نطلبه من جبهة النصرة هو أن تكفّ عن تكفير الأعيان -أفراداً وهيئات وفصائل وجماعات- وأن تترك هذا المنهج في التكفير فإنه مدمّر للجهاد، وهو المدخل الذي دخلت منه داعش أولَ مرة، وما سار في هذا الطريق أحدٌ إلا انتهى إلى ما انتهت داعش إليه لا محالة.

 

لقد سمعنا الحكم بتكفير هيئات ثورية في كلام صريح واضح لأمير النصرة الذي كفّر الائتلاف وكفّر هيئة الأركان، وما نزال نسمعه من كثير من عناصرها الذين يكفّرون فصائل كاملة من الجيش الحر، بل ومن الفصائل الإسلامية الأخرى (رغم كراهيتي لهذا التفريق بين المجاهدين وعدم موافقتي عليه) والحجّة التي يحتجّ المكفّرون بها دائماً هي الاتصال بالدول وتلقي الدعم منها، أو القبول بدولة القانون والمؤسسات والانتخابات والبرلمانات.

 

وكلا الأمرين مردود، فإن الاتصال بالكافر لا يكفّر إلا إذا كان على سبيل الموالاة، أما الاتصال لتحقيق مكاسب للثورة أو دفع مضارّ محتمَلة عليها فإنه من السياسة الشرعية المطلوبة، ويدخل في هذا الباب تلقّي الدعم اللازم لإسقاط النظام، ما لم تترتّب على تلقّيه مفسدةٌ أكبرُ من مفسدة انتصار النظام... ولا أدري كيف يمكن أن توجد مفسدةٌ أكبرُ من انتصار وبقاء النظام.

 

أما دولة القانون والمؤسسات فإنها النقيض لدولة الحزب الواحد والحكم الشمولي والظلم والفساد والاستبداد وليست نقيضاً لدولة الإسلام. وما البرلماناتُ والانتخابات التي ينكرونها بالمطلق إلا أداةٌ من أدوات الحكم، والأدوات ليس لها دين، فهي لا تكون مسلمة أو كافرة ولا تكون صالحة أو فاسدة إلا بما يَنتج عنها من آثار.

 

إنّ البرلمانات التي تساوي بين إرادة الخالق والمخلوق أو تقدّم رأيَ العباد على رأي الشارع هي مؤسسات كفرية بالتأكيد، ولكنْ ليس هذا ممّا يَلزمها حتماً في كل حال، بل يمكن أن تُضبَط بضابط دستوري أعلى يمنع تجاوز الشريعة وتعطيلَ الفرائض وإباحةَ المحرمات، وعندئذ لن يكون "النظام البرلماني" عدواناً على الشريعة، بل سيكون فقط نظاماً سياسياً يوفر الحماية من الطغيان والاستبداد، ومَنْ رفضَه وحاربه فإنه يدعم -شعرَ أم لم يشعر- بقاءَ وهيمنةَ الطغيان والاستبداد.

 

إن التكفير بابُ شرٍّ كبير فتحَتْه جبهةُ النصرة على الثورة وعلى الجهاد الشامي، حتى صار تكفير كثير من الفصائل كلمةً دائرةً على ألسنة عناصرها بلا أدنى رهبة ولا تردد.لقد كان شيخ المجاهدين في العصر الأخير، الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، كان خصماً عنيداً لهذا المنهج، وبلغ من صرامته في تطبيقه أنه كان يطرد كل مَن يجترئ على التكفير ويمنعه من المشاركة في معسكراته الجهادية، وعلى هذا النهج سار القائد خطاب، فمَن أولى بالاقتداء: هؤلاء الأعلام الذين شهدت لهم الأمة، أم الدواعش الذين صار التكفيرُ واستحلالُ الدم عندهم أهونَ من شرب الماء؟

 

إنّ الفيصل الحقيقي بيننا وبين داعش هو استسهال التكفير وتوزيع تهمة الردة والصحوات على الأفراد والجماعات، فمَن تابعهم في هذا المنهج فهو منهم ولو اختلفت الأسماء والرايات.

 

-5-

 

الأمر الثاني الذي نطلبه من جبهة النصرة هو أن لا تقاتل أيَّ فصيل بأي ذريعة، وإذا كان لها حَقٌّ فإنها تستوفي حقَّها عن طريق القضاء الشرعي المستقل، وإذا عجز القضاء عن استيفاء الحق فلَتنازُلها عنه أهونُ من إراقة الدماء وقتل الأبرياء، فما كان لقتالٍ عامّ أن ينتهي بتحصيل الحق المجرد، بل لا بد فيه من تجاوزٍ بالباطل وهدرٍ لدماء الأبرياء.

 

وليس معنى هذا أنّ قتالَ الفصائل ممنوعٌ مطلقاً، فقد دعونا إلى قتال داعش منذ أن كانت داعش فصيلاً صغيراً باغياً معتدياً على سائر الفصائل، وما زلنا ندعو إلى قتال داعش ليلاً ونهاراً وسرّاً وجهاراً وإلى استئصال شجرتها الخبيثة من الأرض. ودعونا إلى قتال فصيل شهداء اليرموك الداعشي في درعا وطالبنا بتفكيك فصيل جند الأقصى الداعشي في إدلب، وسوف نستمر بالدعوة إلى قتال كل فصيل مستحق للقتال تحقيقاً لمصلحة الجهاد والعباد والبلاد.

 

في سوريا اليوم مئاتٌ ومئات من الفصائل الكبيرة والصغيرة التي تحمل السلاح، فربما استغل بعضُها القوةَ التي يملكها فظَلمَ وأفسد وطغى، أو اعتدى على غيره من الفصائل وبغى، فهل يُترَك أم يؤخَذ على يديه ويُمنَع من الإفساد والطغيان والبغي والعدوان؟

 

إنّ قتالَ الفصائل واجبٌ في حالتين: في حالة الاعتداء على المدنيين وقطع الطرق والخطف والقتل والإفساد، فمَن صنع ذلك فإنه يُقاتَل قتالَ المفسدين المحاربين ويُقام عليه حدّ الحرابة إذا قُدِر عليه قبل التوبة. هذه هي الحالة الأولى، والثانية هي حالة البغي: إذا بغى فصيلٌ على فصيلٍ فاعتدى عليه بالسلاح واحتل مقراته وصادر أسلحته وقاتل مقاتليه. هذه الحالة تستوجب القتال لرد البغي والعدوان بنص القرآن: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

 

لكنّ للقتال في الحالتين السابقتين ضابطاً مهماً، هو أن يكون قرارُ قتال الفصيل المفسد أو الباغي باتفاق الفصائل الكبرى المعتبَرة في المنطقة، لكيلا يتحول القتال بذريعة ردّ البغي إلى عدوان وتصفية حسابات وصراع على النفوذ. وأن يصدر هذا الحكم عن محكمة شرعية محايدة مستقلة متّفَق عليها، وليس عن محكمة الفصيل المقاتِل، فإن السلطة القضائية لا بد أن تكون مستقلة عن السلطة التنفيذية، ولا يصحّ أن يكون القاضي هو الجلاد.

 

إنّ العصمةَ من الظلم والخطأ متحققةٌ في الجماعة الكبيرة، ولا يمكن أن تخلو الجماعاتُ الصغيرة والفصائل من هوىً وتحزّبٍ ومنافسة ستكون سبباً في تحويل الجهاد إلى غابةٍ لو غابَ هذا الضابط. من هذا الباب كان انتقادنا لجبهة النصرة حينما حاربت معروف وحزم وبقية الفصائل، وهو انتقاد لم يفقَهْ مغزاه كثيرون ولا أدركوا أبعادَه الكبيرة وضرره الهائل على جهاد الشام.

 

خلال عشرة أشهر قامت جبهة النصرة منفردةً بغزو اثنَي عشر فصيلاً وتفكيكها بحجة البغي والصحوات، ولم يصنع ذلك أحدٌ غيرَها إلا داعش. فهل يجوز شرعاً أن ينفرد فصيل بقرار قتال فصيل بمثل هذه الذرائع المطاطة؟ لقد أمرَ ربُّنا تبارك وتعالى بقتال البغاة بلفظ "قاتلوا"، وإني قرأت كل ما وصلتُ إليه من تفاسير فما وجدت أحداً من المفسرين يقول إن جبهة النصرة هي المَعنية بهذا الخطاب، بل المقصود به جماعة المسلمين، سواء أكان لهم إمام أم لم يكن لهم إمام.

 

لو أجزنا للنصرة أن تصفّي حساباتها بقوة السلاح لوجب أن نُجيز ذلك للفصائل جميعاً، فبأيّ حق نمنح النصرة هذا الحق ونحرم منه الآخرين؟ ولو سلكت الفصائل كلها المسلكَ الذي سلكته النصرة (وما تزال تسلكه) لصارت سوريا نسخة من الصومال الحديث أو من جاهلية العرب القديمة: أشتاتاً متقاتلين.

 

-6-

 

الأمر الثالث الذي نطلبه من جبهة النصرة هو الاعتدال في الدين والتبرؤ من الغلو. ولعل الجبهة تردّ علينا فتقول: أين نحن من الغلو؟ ألا تلاحظون الفرق بيننا وبين داعش؟ وجوابنا أن الغلو درجات، فإن تكن داعش بلغت به الغايةَ فإن غيرها قد يتلبّس به بما هو دونَها، والنصرة استقَتْ من الأصل الذي استقت منه داعش، فلا غرابةَ أن تتلبّس بشيء من الغلو المذموم.

 

من أعظم مظاهر الغلو التي ننتقدها على النصرة التهاون في التكفير، وتحويله من مسألة يختص بها كبار أهل العلم وخاصتهم إلى "ثقافة شعبية" تنتشر بين العناصر والأنصار ويلهو بها الصبيان والأغرار.

 

فأما التهاون في التكفير فقد أشرت إليه سابقاً في حلقة مضت من هذه الحلقات، واستدللت عليه بتكفير الجولاني نفسه للائتلاف والأركان. ومن المعلوم أن كثيراً من الفصائل لا تتفق مع الائتلاف، بل ربما وصل الأمر ببعضها إلى تخوين بعض رجالاته، أما التكفير؟ لا، هذه جرأة ما رأيناها إلا من داعش والنصرة وبنات القاعدة الأخريات. وما نزال إلى اليوم نسمع ونقرأ من عناصر النصرة اتهامات بالردة والكفر على طوائف من الجيش الحر، وعلى فصائل وجماعات وهيئات سياسية ثورية، وعلى أردوغان وحكومة حماس، وكل ذلك عندهم شائع متداوَل معروف.

 

ومن هذا الباب رَمْيُ بعض الفصائل بالردّة أو اتّهامُها بالصحوات لتبرير قتالها، كما حصل مع حزم وجمال معروف. ومن المؤكد عندنا أن قتال النصرة لكلا الفصيلين هو قتال مصالح ونفوذ وليس قتالاً شرعياً، وقد كتبتُ ذلك يومها فهاج عليّ كثيرون من أنصار النصرة، وما زلت أقوله إلى اليوم، وأرى أن مثل هذا القتال حرام، وأنه يزداد حُرمةً عندما يُلبَّس بلباس الدين.

 

أما تحويل التكفير إلى "ثقافة شعبية" يتعامل بها العوام والعناصر والأنصار فإنها أمّ الدواهي، فالأصل أن يقتصر المسلم على تكفير الطوائف والجماعات الخارجة عن الإسلام، كاليهود والنصارى والنصيريين والمجوس والبوذيين والقاديانيين والبهائيين وأضرابهم، أما الأعيانُ فإنّ الحكم عليهم بالردة والكفر ليس من شأن أهل العلم الشرعي بالمطلق، فضلاً عن أن يكون من شأن العامة، وإنما هو من اختصاص القضاء، لأنه حكم شرعي قضائي تترتب عليه دماء وحقوق.

 

ومن مظاهر الغلو التي نأخذها على جبهة النصرة تلك السنّة السيئة التي سَنَّتْها، وهي تعليم نواقض الإسلام قبل تعليم الإسلام، فقد جاءت إلى مجتمع مغيَّب عن الدين منذ نصف قرن فلم تبدأ بتعليمه الأعمالَ التي يكون بها مسلماً، بل علّمته كيف يحكم على الآخرين بالخروج من الإسلام! ولَعمري إن هذا من أغرب الغرائب، وما رُوي مثلُه عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ولا عن أحد من أهل العلم، بل كان الرجل يأتي إلى النبي فيعلّمه ما يصير به مسلماً، فإذا انصرف قائلاً: "لا أزيد عليها" قال صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".

 

وكان علماؤنا يُلزِمون طالبَ العلم بالتدرج في طلب العلم، بدءاً بما يحتاج إليه في دينه من الطهارة والعبادات، باباً بعد باب، ومعه تجويد القرآن وفهمه وحفظ شيء من الحديث، فلا يصلون إلى مسائل العقيدة إلا بعد عشر سنين، واليوم تقفز النصرة في حِلَقها ودروسها من فوق ذلك كله لتصل فوراً -بقفزة بهلوانية عجيبة- إلى مسائل التكفير ونواقض الإسلام! ما هكذا -يا جبهةَ النصرة- يكون تعليم الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين