سألوني عن جبهة النصرة -1-

 

-1-

 

أعرف ثلّة من شباب النصرة هم كالذهب الخالص، من أصدق مَن عرفت من المجاهدين وأكثرهم إخلاصاً فيما أحسب، والله حسيبهم، تعرفت عليهم بسبب كتاباتي عن الجبهة وانتقاداتي المتكررة لها، فقد رَدّوا عليّ وناقشوني كما ردّ وناقش غيرُهم، إلا أنهم من الفئة الأولى التي أحبها، الذين ينتقدون بحق ويجادلون بأدب، فأردّ على كلامهم العاقل بكلام عاقل. الفئة الثانية هم المُراؤون الذين يجادلون بلا عقل، أخاطبهم من الشرق فيردّون من الجنوب، وهؤلاء أُعرض عنهم ولا أضيع وقتي معهم. أما أصحاب الفئة الثالثة فإنني أحظرهم على الفور، وهم السفهاء الذين لم يهذّبهم الدين ولم يُرَبِّهم الوالدون في طفولتهم والمعلّمون أيامَ الطلب، فلا خير يُرتجَى منهم لا في دنيا ولا في دين.

 

هؤلاء المجاهدون الصالحون ناقشوني فيما كتبت وناقشتهم، ولمست عند كثيرين منهم إخلاصاً وإنصافاً حبّبهم إلى قلبي وشجعني على التواصل معهم. ولا شك أنني لم أقنعهم في كل ما قلت ولم يقنعوني في كل ما قالوا، ولكني استفدت منهم وأرجو ان يكونوا قد استفادوا مني.

 

ولأنني تصورتهم كأولادي الذين أحبهم وأرجو لهم الخير والفلاح في الدارَين فقد كنت أكتفي بوعد وعهد آخذه منهم، سواء اقتنعوا بكل ما أقوله لهم أم لم يفعلوا: أن لا يتهوروا في هاوية التكفير التي تفتح باب الشر الكبير وتقودهم إلى قتل أهل القبلة من المسلمين، وأن لا يستجيبوا لأمرائهم لو دفعوهم إلى قتال أي فصيل ثوري، إلا إذا ثبت بغيُه أو فساده وتعيَّنَ قتالُه بحكم قضائي يصدر عن جهة مستقلة محايدة، وليس عن قيادة النصرة نفسها، لأن القاضي والجلاد لا يجتمعان في كيان واحد إلا في أعراف الطغاة والمستبدين.

 

عددٌ من هؤلاء الأحبة الأفاضل ألحّوا عليّ مؤخراً بسؤال، أو طلب، قالوا: إنك ما تزال تنتقد تجاوزات النصرة وأخطاءها حتى ليراك الغريبُ خصماً لها وعدواً من ألدّ الأعداء، ولكنك تناقشنا فنلمس عندك غَيرة عليها وحرصاً على تصويب مسارها وتصحيح أخطائها، فهلاّ تركتَ النقد المتفرق وكتبت مقالة جامعة فيما تأخذه على النصرة وما ترجوه منها؟

 

قلت: آن الأوان؛ أفعلُ إن شاء الله. وهذا هو تحقيق الوعد، على أن تحتملني جبهة النصرة ويحتملني مجاهدوها وأنصارها، فإني لم آلَفْ لغة السياسة والدبلوماسية التي تزيّن القبيحَ وترفع الطريح، وما كنت لأجامل في مصلحة الأمة صغيراً ولا كبيراً ولا فرداً ولا جماعة. واحتمِلوا أيضاً طول هذه المقالة، فإنني لن أُنصف إذا اختصرت ولن أحقق المراد بكُلَيمات. على أني سأقسمها إلى أقسام فأنشرها مجزأة متفرقة حتى يسهل ابتلاعها على الآكلين.

 

أختم هذه المقدمة بكلمة أوجّهها لنفسي وللقراء الكرام: هذه السلسلة ستكون اختباراً حقيقياً للطرفين، لي وأنا أكتبها، ولمجاهدي النصرة وأنصارها وهم يقرؤونها. فإن أخطأت فليردّوا عليّ خطئي، حجّةً بحجّةٍ وفكرةً بفكرة وحقيقةً بحقيقة، وإن أصبت فليعودوا إلى الحق ولا يتعصبوا للباطل حميّةً وعصبيّةً، فإنما هي من بقايا الجاهلية التي ذمّها الإسلام.

 

-2-

 

سأجيب -في هذه الحلقة والتي بعدها- عن بعض الأسئلة التي وردتني فُرادَى في أوقات مختلفة وأجبتُ أصحابَها في مراسلات خاصة، وهي توضح موقفي من جبهة النصرة على العموم، وبعد الفراغ منها سأنتقل إلى الجزء الأهم، فأكتب ما آخذه على جبهة النصرة وما أرجوه منها بالتفصيل، وسيكون ذلك هو لبّ هذه الحلقات وهو ما أنشأتُها أصلاً من أجله.

 

سألوني: هل تصنّف جبهةَ النصرة عدواً من أعداء الثورة؟ قلت: معاذ الله، بل هي منا ونحن منها، ولو رأيتُها عدواً لصرّحت كما صرحتُ بعداوة داعش منذ دهر. إني لم أخشَ داعش ولم أجاملها قط، فلماذا أخشى النصرة وأجاملها وأزعم فيها ما لا أراه فيها؟

 

قالوا: هل تجيز للفصائل قتالَ النصرة أو تدعو إليه؟ قلت: معاذ الله، إني إذن لَشريكٌ في الدم الحرام. ولعل بعض الفصائل يتوقفُ تمويلُها وتسليحها على رضاها بقتال النصرة، فأقول لها: إياكم أن يجرّكم إلى قتال المسلمين أيٌّ كان، ولو كان الثمنَ مالُ الدنيا كلها، ولو قطعوا عنكم السلاح وخرجتم من الميدان فإنه خير من توجيه السلاح إلى صدور المسلمين.

 

قالوا: لكنك اتخذت موقفاً صارماً في الحالات التي قاتلَتْ فيها النصرةُ غيرَها من الفصائل ودعوتَ إلى التدخل وردّها ولو بالقوة؟ قلت: نعم، فعلت، وسأفعل كلما تكررت أمثالُ هذه الحوادث، سواء أكانت النصرة طرفاً فيها أم كان غيرُها من الفصائل هو الطرف، فالقاعدة التي قررها الشرع (وليس أحدٌ من الخلق، لا أنا ولا غيري) أنّ الباغي يُقاتَل لرد بغيه وأن المعتدي يُدفَع عدوانُه ولو كان الثمنُ موتَ أحد الطرفين، ودلّت النصوص المحكمة القطعيةُ الدلالة والثبوت على أن المدافع عن حقه إذا مات فهو شهيد، وأن المعتدي إذا مات فهو في النار.

 

قالوا: لكن كيف تحكم على أي من الطرفين بالبغي ولعله ينتقم لنفسه أو يأخذ حقه؟ قلت: لدينا في سوريا هيئات ومحاكم شرعية مستقلة، فمَن كان له حق فليتحاكم إليها ويأخذ حقه عن طريقها، أما أن يصبح الفصيل القويّ هو القاضي وهو الجلاد فإنه بَغْيٌ وعدوان لا يقبله عقل ولا شرع ولا قانون، ولو أبحنا ذلك السلوك لكل فصيل لصارت سوريا غابة من الوحوش.

 

قالوا: هل تدعو إلى خروج النصرة من الميدان؟ قلت: لن أدعو إلى خروج أي فصيل يقاتل النظام من الميدان، لا النصرة ولا غيرها، ما لم يصبح وجودُه أكثرَ ضرراً من عدمه. الثورة فيها فصائلُ كثيرةٌ يختلط خيرُها بشرّها، فنحن نحتملها ونتشبّث بها ما غلب الخيرُ الشرَّ، فإذا زاد الضرّ الذي يصدر عنها على الخير الذي يُرجَى منها صار إخراجُها من الميدان واجباً يفرضه العقل والشرع.

 

من أجل ذلك أضغط على النصرة وأستمر في نقدها النقدَ المُرّ، لأنني أدافع يوماً أخشاه وأرجو صادقاً أن لا نبلغه، يوماً يصبح ضررها عظيماً وضريبتُها ثقيلةً بحيث تفوق قدرةَ سوريا وثورتها على الاحتمال. لو بلغَتْ جبهةُ النصرة هذا المبلغ ستقرؤون دعوة صريحة أطالبها فيها بالخروج من الميدان، فلا يعتبَنْ أحدٌ عليّ لو فعلتُ إذا فعلت بحق، بل العتب على النصرة إذا سمحت بالوصول إلى تلك النهاية الحزينة.

 

-3-

 

السؤال الأهم الذي أسمعه على الدوام: لماذا لا تنتقد إلا النصرة؟ أليس غيرُها من الفصائل يرتكب ما ترتكبه هي من أخطاء؟

 

الجواب من ثلاثة أوجه.

 

أولاً: يلاحظ المراقب المنصف (وأسأل الله أن أكون منصفاً) أن الأخطاء المختلفة تتفرّق في الفصائل وتجتمع في النصرة، ففي الفصائل مَن يعادي غيرَه، وقليلٌ جداً منها، بل من أندر النادر، من يقاتل الآخرين ومَن يستولي على أسلحة غيره من الفصائل، وفيها من يفرّق الصف ويتفرد بالإدارة والقضاء، ومن يعزل العلماء والدعاة ويطاردهم إذا خالفوا منهجه، ومن يعتقل ويلاحق ويؤذي الناس بغير حق، أو يتسلط عليهم ويفرض عليهم قوانينه الخاصة... لكن لا يوجد فصيل اجتمعت فيه هذه التجاوزات كلها وتكررت كثيراً إلا النصرة.

 

الوجه الثاني: إن حجم المخطئ أهمّ من حجم خطئه، فإن أعظم خطأ يرتكبه فصيل صغير لا يبلغ خطرُه معشارَ الخطر الذي يترتب على أصغر الأخطاء التي ترتكبها جبهة النصرة. لو أن كتيبةً عددُ مقاتليها مئةٌ أو مئات بغَتْ على كتيبة أخرى مثلها فإن القُوى العسكرية الثورية الكبيرة قادرةٌ على احتواء المشكلة ونزع فتيل الاختلاف، ولكنْ مَن يستطيع وقفَ بغي النصرة إذا بغت، ومن سيمنعها من العدوان إذا أقدمت على العدوان؟ إن الجُرَذ حيوان مؤذ كريه، ولكنْ ربما عاش بين الناس منه مئاتٌ فلم يضجّ الناس، أما لو أفلت نمرٌ من حديقة الحيوان فسوف تُعلَن حالة الطوارئ وينتشر التحذير من الخطر الكبير على كل لسان.

 

الوجه الثالث: إن القوى الثورية كلها لها وازع من نفسها ومن غيرها، فإنها إذا أخطأت وذُكِّرت تذكرت فرجعت عن الخطأ، وهي تتجاوب مع النصح وتخضع للضغط الشعبي، ولنا تجارب كثيرة مع أكثر الفصائل الكبيرة في الميدان، فقد وقع الخلاف مرات بين فصائل الغوطة الشرقية ومرات بين فصائل الشمال، فما إنْ تدخل العقلاء حتى استجاب المختلفون، فخضعوا لخطة الإصلاح ولم يشهر بعضهم في وجه بعض السلاح.

 

أما النصرة فإنها لا تخضع لأحد ولا تستجيب لناصح ولا ترعوي عن قتال، ولنا مثال في حملتها على حزم ومعروف، فقد تدخل العلماء والدعاة والمصلحون في الحالتين وتدخلت الفصائلُ الكبرى لحمل الطرفين على الصلح ودفعهما إلى القضاء، فاستجاب الطرف الآخر وخضع لخطة الصلح، وأبَت النصرة إلا أن تطبّق شريعة الغاب: "القوي يأكل الضعيف".

 

ولنا مثال في اعتقال أبي عبد الله الخولي، فإن كاتب هذه السطور لم يترك أحداً يعرف أن له وجاهة وكلمة عند النصرة إلا كلّمه ووسّطه، والكل يعلم أن النصرة تعتقل الرجل ظلماً بغير حق، والنصرة نفسها تعلم، ورغم ذلك فإنها لم تسمع ولم تستجب، ولا يبدو أنها ستفعل، والله يعلم أما يزال حياً أم فتكوا به في المعتقل. وله أمثال يصعب إحصاؤهم، يبلغون المئات.

 

وهذا سببٌ يدعو الناشطين إلى مزيد من الضغط العلني، فهم يعلمون أنهم لا يصلون مع النصرة إلى الحق بالطريق اليسير الذي يصلون إليه مع الآخرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين