زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد ـ 3 ـ

اللواء الركن : محمود شيت خطاب

قائد سرية أم قِرفة بوادي القرى :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على رأس سريّة إلى أُم قِرفة بوادي القرى على سبع ليالٍ من المدينة ، في شهر رمضان من السنة السادسة الهجريّة ، وهي من فزارة من بني بدر .
وخرج المسلمون من المدينة ، يكمنون النهار ويسيرون اللّيل ، وخرج بهم دليل لهم . ونذرت بهم بنو بدر من فزارة ، فكانوا يجعلون ناطورا لهم حين يُصبحون ، فينظر على جبل لهم مشرفٍ وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه ، فينظر قدر مسيرة يوم ، فيقول: ارحلوا فلا بأس عليكم هذه ليلتكم! .
فلما كان زيد وأصحابه على مسيرة ليلة ، أخطأ بهم دليلهم الطريق ، فأخذ بهم طريقا أُخرى حتى أمسوا وهم على خطأ . وعرفوا خطأهم ، ثم صمدوا لهم في اللّيل حتى صبحوهم ، وكان زيد نهاهم عن المطاردة ، ثم أمرهم ألا يتفرّقوا ، وقال: "إذا كبرتُ فكبِّروا" ، ثم أحاط بفزارة في بيوتهم ، كبّر وكبّروا ، فخرج مَسْلَمة بن الأكوع ، فطلب رجلا منهم حتى قتله ، وأخذ جارية بنت مالك بن حُذيفة بن بدر ، وجدها في بيت من بيوتهم ، وهي ابنة أم قرفة ، واسم أم قِرفة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر ، كما أخذوا أم قرفة فقتلها قيس بن المحسِّر ، وقتل النُعمان وعبيد الله ابني مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر .
وكانت العرب تقول: "لو كنت أعزّ من أم قرفة " ، لأنها كانت يغلّق في بيتها خمسون سيفا كلّهم لها ذو محرم .
وعاد زيد إلى المدينة ، فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليه مسرعا واعتنقه وقبله ، فأخبره زيد بانتصاره وغنائمه .
أما جارية ابنة أم قرفة ، فقد وهبها سلمة بن الأكوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبها لحزْن بن أبي وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم ، فولدت له امرأة ليس له منها ولد غيرها .
وهكذا أخذ زيد بثأر المسلمين الذين قتلتهم فزارة ، وأعاد هيبة المسلمين إلى تلك المنطقة ، ولقّن فزارة درسا لا ينسونه أبدا ، كما لقن غيرها من القبائل مثل هذا الدرس .
قائد سرية مُؤْتة 
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى مُؤْتَة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية ، وكان سبب بعث هذه السرية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عُميْر الأزْديّ أحد بني لَهْبٍ إلى ملك بُصرى بكتاب ، فلما نزل مُؤتة عرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغسَّاني فقتله ، ولم يُقْتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رسول غيره ، فاشتد ذلك عليه ، وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجُرْف ، وهم ثلاثة آلاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمير الناس زيد بن حارثة ، فإن قُتل فجعفر بنِ أبي طالب ، فإن قُتِل فعبد الله بن رواحة ، فإن قُتل فليرتضِ المسلمون بينهم رجلاَ فيجعلوه عليهم .
وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لواءً أبيض دفعه إلى زيد ، وأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يأتوا مقتل الحارث بن عُمير وأن يَدْعُوا مَنْ هناك إلى الإسلام ، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم . وخرج مُشيِّعا لهم حتى بلغ ( ثنية الوداع ) ، فوقف وودّعهم ، فلما ساروا من مُعسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكما وردكم صالحين غانمين! فقال عبد الله بن رواحة :
لكــــنّني أســـــأل الرحــــمن مغفــــرة     وضَرْبَــــةً ذات فـــــرعَ تقــــذف الزبــــدا
ولما فصلوا من المدينة ، سمع العدو بمسيرتهم ، فجمعوا لهم ، وقام فيهم شُرَحْبِيل بن عمرو ، فجمع أكثر من مائة ألف ، وقدم الطلائع أمامه .
ونزل المسلمون ( مُعان ) من أرض الشّام ، وبلغ الناس أن هِرَقْل قد نزل ( مآب ) من أرض البلقاء في مائة ألف من بَهْراء ووائل وبَكْر ولَخْم وجُذام .
وأقام المسلمون ليلتين لينظروا في أمرهم ، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنخبره الخبر . . . فشجعهم عبد الله بن رواحة على المُضيّ ، فمضوا إلى مؤتة .
ووافاهم المشركون ، فجاء ما لا قِبَل لأحد به من العدد والسِّلاح والكُراع والديباج والحرير والذّهب ، فالتقى المسلمون والمشركون ، وقاتل الأمراء يومئذ على أرجُلهم ، فأخذ اللِّواء زيد بن حارثة فقاتل ، وقاتل المسلمون معه على صفوفهم ، حتى قُتل طعنا بالرِّماح رحمه الله . ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب ، فنزل عن فرس له شقراء ، فعرقبها ، فكانت أوّل فرس عُرقبت في الإسلام ، وقاتل حتى قُتل رضي الله عنه ، ضربه رجل من الروم فقطعه بنصفين ، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا ، ووجد في بدن جعفر اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح ، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.
واصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فسحب قوّات المسلمين من ساحة المعركة وحمى بالساقة انسحابهم ، فكانت عملية الانسحاب التي طبقها خالد من العمليات الانسحابية الفذّة في تاريخ الحروب .
 ولما سمع أهل المدينة بجيش مُؤْتَة قادمين ، تلقّوهم بالجَرْف ، فجعل الناس يُحْثُون في وجوههم التراب ويقولون: يا فُرَّار ، أفَررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفُرّار ، ولكنّهم كُرَّار إن شاء الله .
وهكذا ضحى زيد بروحه رخيصة في سبيل الله مُقبلا غير مدبرِ ، رافعا لواء الإسلام عاليا ، لم يعفره بالتراب فيِ حياته ، فلما استُشهد لم يُعفر بالتراب المجبول بدم الشهيد ، بل رفعه فوراَ القائد الجديد .
الإنسان :
استُشهد زيد في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان الهجرية (629 م) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من زيد بعشر سنين ، أي أن زيدا ولد سنة (581 م) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وهو سنة (571 م) ، ومعنى ذلك أن زيدا عاش ثمانيا وأربعين سنة شمسيّة ونحو خمسين سنة قمرية .
ولكن هناك نصوص على أنه أستُشهد وله من العمر خمس وخمسون سنة ، والرواية الأولى أرجح ، لأنها المعتمدة عند أكثر المؤرخين المعتمدين . وكان زيد رجلا قصيرا ، آدم شديد الأدمة ، في أنفه فطس ، وفي رواية أنه كان أبيض أحمر ، والتناقض بين الروايتين واضح ، والرواية الأولى هي الصحيحة ، لاعتمادها من أكثر المؤرخين الثقات .
 ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قتل جعفر وزيد بكى وقال: " أخواي ومؤنساي ومحدثاي ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة .
 ولما أصيب زيد ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم أهله ، فجهشت زينب بنت زيد في وجهه ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتحب ، فقال له سعد بن عُبادة : "يا رسول الله ما هذا؟ " ، قال: " هذا شوق الحبيب إلى حبيبه ولا عجب في ذلك ، فقد كان زيد حِبَّ رسول الله ومولاه .
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وجعفر وابن رواحة بعد استشهادهم ، فقال: اللهم اغفر لزيد ، اللهم اغفر لزيد ، اللهم اغفر لزيد ، اللهم اغفر لجعفر وعبد الله بن رَواحة .
وقال حسّان بن ثابت يرثي زيدا :
عَيْـــــنِ جـــــودى بـــــدمعك المَـــــنْزُور واذكُــري فـــي الرَّخـــاء أهـــل القُبـــور
واذكـــري   مُؤْتَــــةً ومــــا كــــان فيهــــا يـــوم راحُــــوا فــــي وقْعَــــةِ التَّغْويـــر
حــــين راحــــوا وغــــادروا ثَــــمَّ زَيــــدا نِعْــــمَ مَــــأوَى الضَّــــريكِ والمأســــور
حِـــــب خــــير الأنــــام طــــرا جميعــــا    ســـيِّد النــــاسِ حبُّــــه فـــي الصُّـــدور
ذاكـــــمُ أحــــــمدُ الــــــذي لا سِـــــواهُ ذاكَ حُـــــزّني لـــــه معــــا وســــروري
إنّ   زيـــــدا قـــــد كـــــان مِنَّـــــا بـــــأمْرٍ ليس أَمْـــــــرَ المكَـــــــذَّبِ المغـــــــرور
ثـــم جـــودي للخزرجـــيِّ بــدمعِ ســيدا كــــــــان ثَـــــــــمَّ غـــــــــير نَـــــــــزُورِ
قــــد أتانــــا مــــن قتلهــــم مـــا كفانـــا   فَبِحُــــــزْنٍ نَبِيْــــــتُ غــــــيرِ ســــــرور
وقد كان لزيد صلة مباشرة متينة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد آثره زيد على أهله ، كما ذكرنا في قصّة محاولة فدائه ، فتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زيد : "ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمّد ، حتى نزلت: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ . فدُعي زيد بن حارثة ، ودُعي الأدعياء إلى آبائهم ، فدعي المقداد بن عمرو ، وكان يقال له قبل ذلك : المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه .
وكان زيد يسمى: زيد الحِبّ ، لأنه حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبو حبِّه أسامة بن زيد الذي فرض له عمر في العطاء أكثر مما فرض لابنه عبد الله بن عمر ، وعلّل ذلك عمر لابنه: "إنّه كان أحب إلى رسول الله منك ، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا زيد ! أنت مولاي ومني وإلي ، وأحب القوم إلي ، وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا ، وقال: أنت مولاي ، ومني ، وأحب القوم إلي
وكانت عائشة أم المؤمنين تقول: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمّره عليهم ، ولو بقي بعده استخلفه وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يَغْزُ لم يعط سلاحه إلا لعلي أو لزيد .
ذلك مبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وتقديره له ، ولن يكون هذا الحب وهذا التقدير إلا لشخصية لها سجاياها المتميزة وإخلاصها النادر وإيمانها العميق .
وزوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش زيدا ، وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زيد ، فتكلّم المنافقون والمشركون وقالوا: " محمد يحرّم نساء الولد ، وقد تزوّج امرأة ابنه " ، فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ، ونزلت: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ، فدعي يومئذ زيد بن حارثة ، ونُسب كل من تبناه رجل من قريش إلى أبيه .
وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ، يعني زينب بنت جحش - قالوا: "إنه تزوج خليلة ابنه" ، فإن العرب إذا تبنت غلاما أنزلته منزلة الولد حتى في الإرث وتحريم نكاح زوجته ، وكان من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته ، إذا نسخ الله شيئا من أمر الجاهلية أن يُسرع صلى الله عليه وسلم إلى الفعل ، ليقتدى به ، فلما زوج زينب بنت جحش من زيد وأذن الله بنسخ عادة الجاهلية ، أمر الله أن يطلقها زيد ويتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل عادة الجاهلية بالفعل ، للعلة التي ذكرها الله في كتابه العزيز: لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحبُّ الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه - يعني زيد بن حارثة - أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق .
ومن الواضح ، أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج زيدا زينب بنت جحش ، وهي ابنة عمته ، ليبطل عادة الجاهلية في الترفع على الموالي وعدم تزويجهم الحرائر وبنات الأشراف ، وكان زواجها بزيد شديدا على نفسها ، قالت زينب رضي الله عنها: خطبني عدة من قريش ، فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستشيره ، فقال: أين هي ممن يعلمها كتاب الله وسنة نبيها؟ قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: زيد . فغضبت حمنة غضبا شديدا وقالت: يا رسول الله أتزوج ابنة عمك مولاك؟! فجاءت فأخبرت زينب ، فغضبت أشد الغضب من غضب أختها وقالت أشد من قولها ، فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، فأرسلت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجني من شئت ، فزوجني من زيد .
لقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تقاليد الترفّع عن تزويج الموالي بالحرائر من بنات الأشراف ، وتقاليد تحريم الزواج بامرأة الابن بالتبني ، وأعتقد أنه لو لم يطبق إبطال
تلك التقاليد عمليا بنفسه وعلى نفسه ، لصعب تطبيقها على غيره ، وهي تقاليد جاهلية بالية أبطلها الإسلام ، فجعل التفاضل بالتقوى ، لا بالأحساب وبالتمسك بالأنساب .
ولست أنسى حديثا سمعته في المدينة المنورة من شيخِ معروف من الشيوخ المسلمين ، يستنكر فيه إقدام شخصيات من عوائل عريقة في المدينة على تزويج قسم من بناتهم الشريفات برجال قدّمهم علمهم ومناصبهم الحكومية وأخّرهم نسبهم وحسبهم ، وقد مضى على الإسلام خمسة عشر قرنا ، وذهبت تقاليد الجاهلية إلى غير رجعة ، وهذا يدل على مبلغ التضحية التي أقدم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وعظم الشجاعة التي حقّقها بإقدامه على زواج زينب من مولاه ، وزواجها بعد أن طلقها مولاه .
إنّ التضحية والشجاعة المعنويتين اللتين تحملهما الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام في قصّة زينب بنت جحش رضي الله عنها لا تقلان عن أي تضحية وشجاعة ماديتين ، إن لم تكن أعظم أثرا وأبلغ تأثيرا ، فكان القدوة الحسنة والمثال الشخصي في تطبيق أصعب تشريعات الإسلام على نفسه قبل غيره ، فاجتث بذلك تقاليد جاهلية بالية ، ولكن لا تزال آثارها باقية بين العرب المسلمين حتى اليوم ، وهناك من لا يتحمل تطبيق اجتثاثها على نفسه من العرب المسلمين غير المؤمنين حقا من الطيبين الأخيار .
ومادمنا قد تطرقنا إلى زواج زيد بالسيدة زينب ، فلا بد من إكمال الحديث عن زواجه بنسائه الأخريات.
فقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن ، فولدت له أسامة بن زيد . حب رسول الله وابن حبه ، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته ، وكان اسم أم أيمن: بركة ، كانت قد تزوجت بمكة في الجاهلية عُبيد بن عمرو بن بلال بن أبي الحرباء بن قيس بن مالك بن ثعلبة بن جشم بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج ، فولدت له أيمن بن عُبيد ، فكنِّيت به . واستُشهد أيمن يوم حُنين ، ومات عُبيد عن أم أيمن ، فكانت فارغة لا زوج لها ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا .
وتزوج زيد أمّ كلثوم بنت عُقبة بن أبي معَيْطٍ . فقد أقبلت أم كلثوم بن عُقبة بن أبي مُعيط ، وأمها أروى بنت كُريز بن ربيعة ، وأم أروى هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب - مهاجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطبها الزُّبير بن العوام ، وزيد بن حارثة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمرو بن العاص ، فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان ، فأشار عليها أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتته ، فأشار عليها بزيد بن حارثة ، فتزوجته ، فولدت له زيدا ورُقيَّة ، فهلك زيد وهو صغير ، وماتت رُقيَّة في حجر عثمان . وطلق زيد أم كلثوم ، فخلف عليها عبد الرحمن بن عوف ، ثم الزُّبير ، ثم عمرو بن العاص . وتزوج هند بنت العوّام أخت الزُّبير ، وكان قد تزوج قبلها دُرة بنت أبي لهب ثم طلّقها .
وتسلسل زوجات زيد بحسب الأقدمية: أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته ، ثم زينب بنت جحش ، ولما طلق زينب زوجته أم كلثوم بنت عُقبة ، ثم طلق أم كلثوم وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب ، ثم طلقها وتزوِج هند بنت العوام أخت الزُبير ، وهكذا سعى النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيدا كرائم النساء وأقربهن نسبا به؛ لأنه حبه ومؤتمنه وموضع ثقته ، ولكي يجتث تقاليد جاهلية عريقة بالية في الزواج ، ولكن بعض المسلمين عادوا إلى تلك التقاليد الجاهلية البالية ، فعادت إلى الحياة من جديد .
وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على المدينة المنورة مرتين: المرة الأولى في خروجه إلى غزوة ( بُواط ) . في شهر ربيع الأول سنة اثنتين الهجرية .
والمرة الثانية في غزوة بني المُصطلق من خُزاعة في ( المُرَيْسِيْعِ ) قرب مكة التي كانت في شهر شعبان سنة خمس الهجرية ، وهذا دليل على اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على كفاءة زيد الإداريّة .
وأوفده النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة مع أبي رافع مولاه ، فحملا سَودة بنت زمعة ، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأم كلثوم ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدم زيد وأبو رافع بزوج النبي صلى الله عليه وسلم وابنتيه المدينة والمسجد يُبنى . وأوفده مع رجل من الأنصار إلى مكة لحمل زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقال لهما: " كونا ببطن ( يَأجِج ) حتى تمر بكما زينب ، فتصحباها حتى تأتياني بها فخرجا إلى مكة بعد غزوة بدر الكبرى بشهر أو قريب منه ، فاستلمها زيد وصاحبه ، وقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على ثقته الغالية بأمانة زيد وحسن تصرفه ورجاحة عقله .
ولم يُسَمِّ الله سبحانه وتعالى أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب غيره من الأنبياء إلا زيد بن حارثة ، ، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا .
روى أربعة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية أخرى أنه روى حديثين فقط  .
ومضى أبو أُسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حِبِّه إلى جوار ربه بعد أن عاش خمسين سنة قمرية ، كان فيها منذ عقل إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم المولى والأخ والحبيب ، فأدى ما عليه من واجبات جسام كأحسن ما يكون الأداء ، فاستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم وحبه ورضاه ، وتقدير المسلمين وحبهم ورضاهم في الماضي والحاضر والمستقبل ، وكان لا يزال وسيبقى أسوة حسنة للمؤمنين المخلصين الصّادقين .
وقد ترك زيد آثاره الباقية في حياة النبيِ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، كما ترك آثاره الباقية في خدمة الدين الحنيف داعيا ومجاهدا ، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء وفي الإسلام والحرب ، رضي الله عنه وأرضاه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين