زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد ـ 2 ـ

بقلم : اللواء الركن محمود شيت خطاب

الهجرة :
لما أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة المنوّرة ، هاجر زيد إليها ، فنزل على سعد بن خَيْثَمَة .
وقيل : نزل حمزة بن عبد المطّلب ، وحليفه أبو مَرْثَد كَنَّاز بن حُصَيْن الغَنَوِي ، وزيد بن حارثة الكَلْبِي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على كُلْثُوم بن الهِدْم ، أخي بني عمرو بن عوف بِقُباء ، ويقال : على سعد بن خَيْثَمَة .
ومهما يكن الاختلاف في اسم الأنصاري الذي نزل عليه في المدينة أو في ضواحيها ، فقد وجد له مستقرا يأوي إليه ؛ ليستأنف جهاده في خدمة الإسلام .
وفي المدينة ، آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين أُسَيْد بن حُضَير ، وقيل : آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ، وقيل : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وحمزة وآخى بين زيد وأسَيْد بن حُضَيْر ، وقيل : آخى بين زيد وحمزة .
ويبدو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وحمزة قبل الهجرة ، وإليه أوصى حمزة يوم أحُد حين حضره القتال ، إن حدث به حادث الموت ، أما مؤاخاة المدينة التي كانت بعد الهجرة إليها فقد آخى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين زيد وأسَيْد بن حُضَير .
أما المؤاخاة بين زيد وبين جعفر بن أبي طالب ، فقد كان جعفر مهاجرا إلى الحبشة ، وعاد منها هو وصحبه من المهاجرين ومَنْ دخل في الإسلام هناك ، وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خَيْبَر ، وكانت غزوة خيبر في شهر محرّم من السنة السّابعة الهجرية ، فمن المشكوك فيه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين زيد وبين جعفر في تلك السنة المتأخرة من الهجرة ، بينما جرت المؤاخاة بعد الهجرة مبكرا .
وهكذا أصبح لزيد في موطنه الجديد ، قاعدة المسلمين الأمينة : المدينة ، مستقرا يأوي إليه ، وأخ يشدّ عضده ، ومجتمع يتعاون معه في السرّاء والضرّاء
في غزوة بدر الكبرى :
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة باتجاه موقع ( بَدْر ) يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مُهاجَره ، أي في السنة الثانية الهجريّة .
وكان مع المسلمين سبعون بعيرا ، فكانوا يتعاقبون عليها : البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة ، وكان بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة بعير ، وفي رواية أخرى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ومَرْثَد بن أبي مَرْثد يعتقبون بعيرا ، وكان حمزة وزيد وأبو كَبْشَة وأنسَة موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتقبون بعيرا ، والرواية الثانية هي المعتمدة لإجماع أكثر المؤرخين عليها .
وكان من الرماة المذكورين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر
الكبرى ، وكان لهؤلاء الرماة الأثر العظيم في إحراز المسلمين النصر في هذه الغزوة الحاسمة على المشركين .
وقد قتل من المشركين يوم بدر حَنْظلة بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أميَّة ، وكان من مشاهير مشركي قريش .
وكان زيد البشير الذي أوفده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بفتح بدر ، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة إلى أهل ( السّافلة ) من المدينة وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل ( العالية ) بشيرين بنصر المسلمين على المشركين في بدر ، قال أسامة بن زيد : " فأتانا الخبر حين سوينا التراب . على رُقية ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كانت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خلَّفني عليها مع عثمان - أن زيد بن حارثة قدم ، فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول : قُتل عُتْبَة بن ربيعة ، وشَيْبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البختري العاص بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبُيه ومنبِّه ابنا الحجاج ! قلت : يا أبتِ! أحقٌّ هذا ؟ ! قال نعم والله يا بُنَي !" .
وكان رجل من المنافقين قد قال لأسامة بن زيد : " قُتل صاحبكم ومَنْ معه" . وقال آخر منهم لأبي لُبابة : "قد تفرق أصحابكم تفرّقا لا يجتمعون بعده ، وقُتل محمدّ وهذه ناقته نعرفها ، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرُّعب" ، قال أُسامة بن زيد : "فأتيتُ أبي ، فكذّب قول المنافقين " .
وهكذا استطاع زيد أن يبدِّد مخاوف أهل المدينة ، ويكذِّب إشاعات المنافقين المغرضة ، ويعيد الهدوء والاطمئنان إلى المدينة .
لقد كان دور زيد في غزوة بدر الحاسمة دورا بارزا حقا قائد سرية القَردَة   :
هي أول سرية خرجٍ فيها زيد أميرا ، وخرج لهلال جمادى الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهرا من مُهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي في السنة الثالثة الهجريّة .
وكانت قريش قد حذرت طريق الشام أن يسلكوها ، وخافوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وكانوا قوما تجارا ، فقال صفوان بن أمية : "إن محمدا وأصحابه ، قد عوّروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه ، لا يبرحون الساحل ، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامّتهم معه ، فما ندري أين نسلك ، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في دارنا هذه ، مالنا بها نفاق ، إنما نزلناها على التجارة : إلى الشَّام في الصيف ، وفي الشتاء إلى أرض الحبشة " ، فقال له الأسود بن المطَّلب : "فنكب عن السّاحل ، وخذ طريق العراق " .
ولم يكن صفوان عالما بطريق العراق ، فاستأجر دليلا يدعى : فُرات بن حيَّان العجليّ الذي قال لصفوان : "أنا أسلك بك طريق العراق . ليس يطأها أحد من أصحاب محمد ، إنما هي أرض نجد وفيافٍ " ، فقال صفوان : "فهذه حاجتي ، أما الفيافي فنحن شاتون ، وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل" .
وتجهز صفوان ، وأرسل معه أبو زمعة بثلاثمائة مثقال ذهب ونُقر فضة ، وبعث معه رجال من قريش ببضائع ، وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة
وحويْطب بن عبد العُزّى في رجال من قريش ، وخرج صفوان بمال كثير: نُقر فضة ، وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم ، وخرجوا على ( ذات عرق ) .
وقدم المدينة نُعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو على دين قومه ، فنزل على كِنانة بن أبي الحُقيق في بني النضير من يهود ، فشرب معه ، وشرب معه سليط بن النُّعمان بن أسلم - ولم تحرّم الخمر يومئذٍ - وهو يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم ، فذكر نُعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال ، فخرج من ساعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب ، فاعترضوا عير قريش وأصابوها ، وأفلت أعيان قريش وأسروا رجلا أو رجلين .
وقدم زيد بالعير على النبي صلى الله عليه وسلم فخمسها ، فكان الخمس يومئذ قيمة عشرين ألف درهم ، وقسم ما بقي على أهل السرية .
وكان في الأسر ، فُرات بن حيان ، فأتى به ، فأسلم .
وهكذا صعّد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الغزوة الحصار الاقتصادي على قريش ، فهدّد طريق تجارتهم إلى العراق أيضا ، بعد أن هدد طريق مكة - الشام ، وطريق مكة - الطائف في غزواته وسراياه السابقة .
سرية زيد إلى سُلَيْم بالجُموم   :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني سُليم بالجمُوم في شهر ربيع الآخر من سنة ست الهجرية زيدا ، فسار على رأس سريته التي لا نعرف تعداد رجالها حتى ورد الجَمُوم ناحية ( بطن نخل ) عن يسارها ، وبطن نخل من المدينة على أربعة بُرُد ، فأصابوا عليه امرأة من مُزيْنة يقال لها حليمة ، فدلتهم على محلة من محال بني سُليم ، فأصابوا في تلك المحلة نعما وشاءً وأسرى ، فكان فيهم زوج حليمة
المُزَنِيَّة . فلما قفل زيد بما أصاب ، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُزنيَّة نفسها وزوجها ، فقال بلال بن الحارث في ذلك شعرا:
لعمــرُك! مــا أخــنى المسُــول ولا وَنَـتْ حليمــــةُ حـــــتى راحَ رَكبُهُمــــا معــــا
وكان الهدف من هذه السرية تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإسلام ، وفرض سيطرة المسلمين على القبائل التي حولها ، وتشديد وطأة الحصار الاقتصادي على قريش وحلفائها .
قائد سرية العِيْص   :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا إلى العِيْص ، وبينها وبين المدينة أربع ليالٍ ، وبينها وبين ذي المَروَة ليلة ، في جمادى الأولى سنة ست الهجرية . فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشَّام ، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب يتعرض لها ، فأخذوها وما فيها ، وأخذوا يومئذٍ فضة كثيرة لصفوان بن أمية ، وأسروا ناسا ممن كان في العير ، منهم أبو العاص بن الربيع .
وقدم زيد بهم المدينة فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجارته ، ونادت زينب في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر: إني قد أجرتُ أبا العاص ! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما علمتُ بشيءٍ من هذا ، وقد أجرنا مَنْ أجرْتِ ، وردّ عليه ما أخذ منه.
وهكذا شدد النبي صلى الله عليه وسلم الخناق في حصاره الاقتصادي على قريش التي تعيش على التجارة ، وتموت بدونها
ائد سرية الطَّرف   :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى الطَّرف في جمادى الآخرة من سنة
ست الهجرية ، والطرف ماء قريب من المِراض دون النُّخَيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة طريق البقرة على المحجة .
وخرج زيد إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا ، فأصاب نعما وشاءً ، وهربت الأعراب ، وصبّح زيد بالنعم المدينة ، وهي عشرون بعيرا ، ولم يلق كيدا ، وغاب أربع ليالٍ ، وكان شعارهم: أمِتْ . . . أمِتْ . . .
وكان هدف هذه السريّة ، تأمين المدينة القاعدة الأمينة للإِسلام ، وفرض سيطرة المسلمين على القبائل بالهجوم عليها ، لأنّ الهجوم أنجع وسائل الدفاع ، إذ إنّ الأعراب إذا لم يُهاجموا من المسلمين ، هاجموا المسلمين ، كما هو دأبهم .
قائد سرية حِسْمَى   :
بعثّ النبي صلى الله عليه وسلم زيدا على سرية إلى حسمى ، وهي وراء وادي القُرى ، في جمادى الآخرة من السنة السادسة الهجريّة .
وسبب بعث هذه السرية ، أنّ دِحْية برت خليفة الكلبي - وكان مسلما- أقبل من عند قيصر الرُّوم ، وقد أجاره وكساه ، فلقيه الهُنَيْد بن عارض وابنه عارض بن الهُنيد في ناس من بني حُذام بحسْمى ، فقطعوا عليه الطريق ، ولما يتركوا حلله عليه إلا سمل ثوب ، فسمع بذلك نفرٌ من بني الضُّبيب ، فنفروا إليهم ، واستنقذوا لدحية متاعه .
وقدم دِحية على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بذلك ، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل ، وردّ معه دِحية .
وكان زيد يسير اللّيل ويكمن النّهار ، ومعه دليل من بني عُذرة ، فأقبل بهم حتى هجم بهم مع الصُّبح على القوم . فأغاروا عليهم وقتلوا فيهم فأوجعوا ، وقتلوا الهنيد وابنه ، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم ، فأخذوا من النَّعم ألف بعير ،
ومن الشاء خمسة آلاف شاة ، ومن السبي مائة من النساء والصبيان .
 ورحل زيد بن رفاعة الجُذامي في نفر من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كتب له ولقومه ليالي قدم عليه فأسلم ، وقال: "يا رسول الله! لا تُحرِّم علينا حلالا ولا تُحل لنا حراماَ" ، فقال: " كيف أصنع بالقتلى؟ " ، قال أبو يزيد بن عمرو : " أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ، ومن قُتل فهو تحت قدمي هاتين" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق أبو يزيد . وبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى زيد بن حارثة ، يأمره أن يخلي بينهم وبين حُرمهم وأموالهم ، فتوجه علي ، فلقي رافع بن مكيث الجُهني بشير زيد بن حارثة على ناقة من إبل القوم ، فردها عليٌّ على القوم ، ولقي زيدا بالفحلتين ، وهي بين المدينة وذي المروة ، فأبلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرد إلى الناس كلّ ما كان أخذ لهم .
وكان الهدف من هذه السرية ، تأديب بني جُذام الذين اعتدوا على دِحية بن خليفة الكلبيّ ، وهم يعلمون أنه أحد المسلمين ، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يرضى باعتداء أحد على مسلم من المسلمين؛ لأن الاعتداء عليه اعتداء على المسلمين كافة
قائد سرية وادي القُرى   :
بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على رأس سرية إلى وادي القُرى في رجب من السنة السادسة الهجرية ، لتأديب بني فزارة ، فأصيبت هذه السرية وتسلل زيد من بين القتلى وعاد إلى المدينة ، فآلى على نفسه ألا يمس رأسه غسل جنابة حتى يغزو بني فزارة .
وفي رواية ، أن زيدا خرج في تجارة إلى الشام ، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان دون وادي القُرى ومعه ناس من أصحابه ، لقيه ناس من بني فزارة من بني بدر ، فضربوه وضربوا أصحابه ، حتى ظنّوا أنهم قد قُتلوا ، وأخذوا ما كان معه ، ثم استبل زيد ، فعاد إلى المدينة ، وهذه الرواية أقرب إلى المنطق والعقل وسير الحوادث .
ويبدو أن المسلمين لم يكتفوا بقطح الطريق التجارية: مكة - الشام على تجارة قريش ، بل أرادوا استغلال هذه الطريق لتجارتهم بهدف تحسين أوضاعهمِ الاقتصادية ، ولكنّهم أخفقوا في ذلك ، إذ تبيّن لهم أنّ الوقت لا يزال مبكِّرا لاستغلال هذه الطريق .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين