زَيْد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد ـ 1 ـ

 

 
اللواء الركن : محمود شيت خطّاب
نسبه وأيامه الأولى :
هو زيد بن حارثة بن شَراحِيْل بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامِر بن النُّعمان بن عامِر بن عَبْد وُدّ بن عَوْف بن كِنَانة بن عَوْف بن عُذرَة بن زيد الَّلات بن رُفَيْدَة بن ثوْر بن كَلْب بن وَبَرَة بن تَغْلب بن حُلْوان بن الجاف بن قُضَاعة بن مالِك بن عمرو بن مُرَّة بن مالِك بن حِمْير بن سَبَأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان ، وإلى قحطان جماع اليمن ، وربما اختلف الذين نسبوه في الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شيء فيها ونقص شيء فيها .
ومن المعلوم أن العرب كانوا ولا يزالون يهتمّون بحفظ أنسابهم تسجيلا ورواية ، ومصادر الأنساب في التراث العربي كثيرة جدا ، وحتى اليوم إذا زرت حيا من أحياء العرب ، وسألت طفلا من أطفاله عن نسبه ، سرد عليك نسبه إلى بضعة أسماء أو أكثر ، وحفظُ الأنساب غير معروف عند غير العرب من الأمم
الأخرى ، فلا غرابة في تشكيكهم باستمرار في صحة الأنساب العربية ودقتها ، والمرء عدو ما جهل .
ولا مجال للعربي الأصيل أن يتقبل تشكيك غير العربي بصحَّة أنساب العرب ، ولكن الشك ينحصر في دقَّتها ، وبخاصة إذا ارتفعت إلى عهود سحيقة في القِدَم .
وأم زيد : سُعْدى بنت ثعلبة بن عبد عامِر بن أفلتَ من بني مَعْنِ من طيء .
وزارت سُعْدى أمّ زيد قومها وزيد معها ، فأغارت خيل لبني القَيْن بن جَسْر في الجاهلية فمرّوا على أبيات بني مَعن رهط أمِّ زيد ، فاحتملوا زيدا إذ هو يومئذٍ غلام يَفَعَة قد أَوْصَفَ ، فوافوا به سوق عُكاظ ، فعرضوه للبيع ، فاشتراه منهم حَكيم بن حِزام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصَيّ لعمته خديجة بنت خُوَيْلدِ بأربعمائة درهم ، فلما تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهبته له ، فقبضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية أخرى ، أن زيدا كان قد أصابه سباء في الجاهليّة ، فاشتراه حكيم بن حزام في سوق حُبَاشة ، وهي سوق بناحية مكة كانت مَجْمعا للعرب يتسوّقون بها في كلِّ سنة ، اشتراه حكيم لخديجة بنت خُوَيلد ، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ينادى عليه بالبطحاء ، فذكره لخديجة ،
فقالت له يشتريه ، فاشتراه من مالها لها ، ثمّ وهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويقال : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ابتاع زيدا بالشّام لخديجة حين توجّه مع مَيْسَرة قِّيمِها ، فوهبته له .
والمتفق عليه ، أن زيدا أصابه سباء ، وكان حرا فأصبح عبدا لخديجة ، ثم أصبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أهميَّة للاختلاف في مَنْ اشتراه ولا في مكان بيعه . وقد كان أبوه حارثة حين فقده قال :
 
بَكَـــيْتُ علـــى زيـــد وَلــم أدْرِ مــا فَعَــلْ أحَــيٌّ فَيُرْجَـــى أم أَتَــى دونَــه الأجــلْ
فواللــــهِ مــــا أدري وإنْ كــــنتُ ســـائلا أغَـــالكَ سَــهْلُ الأرض أمْ غــالكَ الجَــبَلْ
فيـا ليـتَ شِـعْري هـل لـكَ الدَّهـرَ رجعـةٌ فحسـبي مـن الدنيـا رُجـوعُك لـي بَجَـلْ
تذكِّرُنيــــهِ الشَــــمسُ عنــــد طلوعهــــا   وَتَعــــرض ذكــــراهُ إذا قــــاربَ الطَّفَـــلْ
وإنْ تَعبــــــتِ الأرواحُ هيَّجـــــنَ ذكـــــرَه            فيــا طــولَ مــا حــزني عليــه ويـا وَجَـلْ
سأعمل نـصَّ العِيْس فـي الأرض جاهدا ولا أســـأم التطـــوافَ أو تســـأم الإبـــلْ
حَيـــــاتيَ أو تـــــأتيِ علـــــى منيَّتــــي        وكـــلْ امـــرئ فـــانٍ وإنْ غـــرّه الأمـــلْ
وأوصـــى بـــه قيســـا وعَمْـــرا كليهمــا    وأوصـى يزيــدا ثــمّ مــن بعــدهم جَــبَلْ
يعني جبلة بن حارثة أخا زيد ، وكان أكبر من زيد ، ويعني يزيد أخا زيد لأمِّه ، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل .
ثم إنّ ناسا من بني كلب حجُّوا ، فرأوا زيدا فَعَرَفهم وعرفوه ، فقال : " بلِّغوا أهلي هذه الأبيات ، فإني أعلم أنهم جزعوا عليّ " وقال :
أَحــــنّ إلـــى قـــومي وإنْ كـــنتُ نائيـــا   بـــأني قطيـــن البيـــت عنــد المشــاعر
فكُفّــوا مــن الوَجــدِ الــذي قــد شـجاكُمُ            ولا تُعملــوا فـــي الأرض نـــصّ الأبــاعر
فـــإني بحـــمد اللــه فــي خَــيْرِ أسْــرَةٍ      كــــرام مَعَـــــدٍّ كـــــابرا بَعْـــــدَ كـــــابِرِ
وانطلق الكلبيون إلى ديارهم ، وأعلموا أباه بمكانه ، ووصفوا له موضعه وعند مَنْ هو ، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه ، وقدِما مكّة ، فسألا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل : هو في المسجد . فدخلا عليه ، فقال : " يا ابن عبد الله يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيِّد قومه ، أنتم أهل الحرم وجيرانه وعند بيته ، تفكُّونَ العاني ، وتُطعمون الأسير ، جئناك في ابننا عندك ، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه ، فإنا سنرفع لك في الفداء" . قال : " مَنْ هو ؟ " ، قالوا : " زيد بن حارثة " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهل لغير ذلك ؟ " قالوا : " ما هو ؟ " فقال : " دَعُوه فخيِّروه ، فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء ، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على مَنْ اختارني أحدا " . قالا : "زدتنا في النّصف وأحسنت" . ودعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هل تعرف هؤلاء ؟ " قال : "نعم" ، قال : " مَنْ هما ؟ " قال : "هذا أبي - وهذا عمي" . قال : " فأنا مَنْ قد علمتَ ورأيتَ صُحْبتي لك - فاخترني أو اخترهما " ، فقال زيد : "ما أنا بالذي أختار عليك أحدا ، أنت مني بمكان الأب والأم " ، فقالا : "ويحك يا زيد أتختار العبوديّة على الحريَّة وعلى أبيك وعمِّك وأهل بيتك ؟ !" ، قال : "نعم! إني قد رأيت من هذا الرّجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا" . فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أخرجه إلى ( الحجر ) فقال : " يا مَنْ حَضَرَ! اشهدوا أنّ زيدا ابني ، أرثهُ ويرثني . فلما رأى ذلك أبوه وعمّه طابت أنفسهما وانصرفا ، فدُعي : زيد بن محمّد ، حتى جاء الله بالإسلام .
ويبدو من سياق هذا الحديث ، أنّه جرى قبل مبعثه عليه الصَّلاة والسَّلام ،
وكان قدوم حارثة وأخيه مكة لفداء زيد قبل الإسلام أيضا .
ومما يلفت النَّظر ، أنَّ زيدا قال لأبيه وعمّه : "إني قد رأيت من هذا الرّجل شيئا ، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا" ، فما الذي رآه زيد في النبي - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق ، وحسن المعاملة ، ذلك صحيح ، ولكنّه لا يكفي لاختياره ؛ لأنّه اختيار صعب جدا ، لا يكون إلا من أجل العقيدة وحدها ، فهي وحدها تدفع المرء المؤمن إلى التضحية بغير حدود .
وأرجِّح أنّ قدوم حارثة وأخيه لفداء زيد ، كان بعد الإسلام ، وأنّ زيدا كان قد أعلن إسلامه وارتبط ارتباطا مصيريا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو الذي رآه زيد من هذا الرجل : النبوَّة " .
ولعلّ الدليل على ذلك ، ما جاء في مصدر واحد : " أنَّ حارثة والد زيد أسلم حين جاء في طلب زيد ، ثم ذهب إلى قومه مسلما " . فإسلام زيد هو الذي جعله يختار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أبيه وأهله ، وإسلام أبيه حارثة ، هو الذي جعله تطيب نفسه فينصرف راضيا.
إسلام زيد :
كان الزُهريُّ يقول : " أوّل مَنْ أسلم زيد بن حارثة " ، وكان يقول : " أوّل مَنْ أسلم من النساء خديجة ، ومن الرِّجال زيد بن حارثة " وقال غير الزهري : إنَّ أوّل من أسلم زيد بن حارثة .
وكان زيد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يلزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الكعبة أوّل النّهار ويصلي صلاة الضحى ، وكانت قريش لا تنكرها ، وكان إذا صلى غيرها قعد عليٌّ وزيد بن حارثة يرصدانه .
وقيل : إنه أسلم بعد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فكان أوّل ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب .
وقيل : أول مَنْ أسلم خديجة ، وأسلم علي بن أبي طالب بعد خديجة ، ثم أسلم بعده زيد ، ثمّ أبو بكر - رضي الله عنهم - جميعا .
وقيل : أول مَنْ أسلم خديجة ، ثم آمن من الصبيان علي ، ثم آمن من الرجال أبو بكر الصديق ، ثم زيد بن حارثة .
ولا أرى تناقضا في تلك الآراء ، فأوَّل مَنْ أسلم من النِّساء خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وأوّل مَنْ أسلم من الرِّجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وأوَّل مَنْ أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأول مَنْ أسلم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنهم ، فهؤلاء هم الأوائل في الإسلام . وكان هؤلاء النّفر هم الذين سبقوا إلى الإسلام ، ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الإسلام بمكَّة وتحدَّث به النَّاس .
وفي مسألة إسلام أولئك النفر السّابقين خلاف مشهور ، ولكنّ تقديم زيد على الجميع ضعيف . ولا مسوِّغ للخلاف ، فكلّهم أوائل في الإسلام ، كل فرد منهم الأوَّل على أمثاله من النَّاس ، فإذا لم يكن زيد أوّل مَنْ أسلم ، فقد كان بالإجماع من أوائل مَنْ أسلم في الطائف :
توفي أبو طالب عمّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخديجة أمّ المؤمنين قبل الهجرة بثلاث سنين ، وبعد خروجهم من الشِّعب - شِعب أبي طالب ، فتُوفي أبو طالب
في شوّال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة ، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوما ، وقيل : كان بينهما خمسة وخمسون يوما ، وقيل : ثلاثة أيام .
وعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بهلاكهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ، وذلك أنّ قريشا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته ، حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه ، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشّاة وهو يُصلِّي ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخْرج ذلك على العود ويقول : أي جوارٍ هذا يا بني عبد مناف !" ، ثمّ يلقيه بالطريق .
فلما اشتدّ عليه الأمر بعد وفاة أبي طالب ، خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثَقيْف يلتمس منهم النّصر . فلما انتهى في مدينة الطائف ، عَمَد إلى ثلاثة نفر منهم ، وهم يومئذ سادة ثقيف ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمرو بن عُميْر ، فدعاهم إلى الله ، وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على مَنْ خالفه ، ولكنّهم ردّوه ردّا غير كريم .
وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : "إن أبيتم فاكتموا عليَّ ذلك ، وكره أن يبلغ قومه خبر إخفاقه ، فلم يفعلوا . وأغروا به سفهاءهم ، فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعُتْبة وشَيْبَة ابْنَيْ ربيعة ، وهو البستان ، وهما فيه . ورجع السُّفهاء عنه ، فجلس إلى ظلِّ نخلة وقال : اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس! اللهم يا أرحمَ الرَّاحمين أنتَ ربّ المستضعَفين وأنت ربي ، إلى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلي بعيدٍ يتَجهّمني ، أو إلى عدو ملَّكته أمري ، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع . إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تُنزل بي غضبك أو تُحل بي سخطك .
وعاد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أدراجه إلى مكّة ، وعاد معه زيد الذي كان يلازمه ملازمة
الظل ، ولا يفارقه طرفة عين ، بعد أن شهد رحلة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، ورأى بعينيه ما لاقاه من صدود وأذى من أجل الدّعوة إلى الإسلام وفي - سبيل الله
يتبع في التجديد القادم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين