زفاف عاشق...


الكاتب: الأستاذة ميمونة شرقية

مع تهاليل الفجر هبت نسائم الشوق متسللة من بين شقوق المنزل مخترقة أجفان الحالم، منسابة إلى فؤاده المتلهف لرؤية محبوبته، فؤاده المشتعل نارا لا ينطفئ حنينا...
 
فتح عينيه اللتين لم تعرفا النوم فكيف تنام عيون الحب؟! الناس يغلبهم سهاد النوم وعين العاشق لا تنام! وانطلق يسعى إلى المسجد ينتظر انبلاج النهار وزخات المطر...
 
فها هو الخريف قد نثر أوراقه الصفراء وحمل الصيف متاعه وارتحل، هاهي طيور أيلول ترسم في الفضاء أجمل الصور، تودع الطبيعة الزاهية المترنمة على أنغام الأخضر الهادئ والأحمرالملتهب، والأصفر الجسور والبنفسجي المغري، تودع السماء الصافية بزرقتها والبحر الهادئ بسحره...
 
وقف الحالم على تلة تشرف على منازلها وفي القلب حمل ذكريات وفي العين امتزاج الألم والأمل، وحار في كيفية الوصول إليها، كيف السبيل ليلقاها؟!
 
ما عرف حبًا غيرها وما عشق مثلها وما كان لفؤاده أن ينبض إلا لأجلها. فتمدد ينظر بين الغمائم طيفها ويرسل إليها زفرات الشوق ويمني النفس بلقياها... 
 
فإذا هي تطل عليه من خلال السحب بوجهها الوضاء نورا، عيناها بحر من اللبن المصفى في وسطه العسل القاني، ورموشها شجر يحيط به فيظلله بالعشق والحنان، ودمع الشوق من عينيها مياه غير آسنة تسقي ورود روض الخد على الجنبين، ولو تبسمت لملأت الدنيا سرورا وغمرت المحزون حبورا، وشعرها ناعم من أشعة الشمس منسدل يلف حياته كل نهارا، وصوتها لحن يطرب الأذن ويسحر الفكر ويسلب الود... والجِيد منها مرايا تعكس الضياء ألوانا...
 
كلامها بيان السحر أحرفه، صيغت من الأيام جمله، ومن أحلامها عبرت إلى الآفاق ترقبه، عاش الحالم مع عشيقته التي يهوى والود منه لو طار إليها من غيرأجنحة إليها ارتقى..
 
والعطر فاح في الآفاق منتشرا يبوح بشوق للحبيب هفا، فانتشى الحالم وبين سحرها ونحرها غفا..
 
هذا الشوق قد غمر الفؤاد والعين برؤية الحبيبة ما اكتحلت حقا، فانتفض انتفاضة من لدغته أفعى وعاد من حيث أتى، والفكر منشغل، والشوق مشتعل والعقل لن يرضى بغيرها بدلا... 
وللبيت توجه والعين ترتقب دار الحبيبة التي عنه نأت..
 
في المنزل، استقبلته أمه بابتسامة، وهي تخبره بما رأت من جمال العروس التي ستخطبها له، وهي تحدثه عن حسنها ودلالها وعن سحر المحيّا ودماثة الخلق والنسب الذي يرتضى.... وكان في الجسد معها واللسان لا ينطق بغير نعم؟؟ أو بلى...
 
ولما لم تجد منه ردا سألت: "بنيّ، ماذا دهاك أين أنت من كلامي يافتى؟؟!!"
أجابها والقلب مأسور بحب التي عاش معها أروع ذكرى، أماه لست راغبا بالتي تسعين لخطبتها وليست الفتاة التي أهوى، إن فؤادي قد تعلق بغيرها ولست بخاطبٍ إن شئت غيرها...
 
ولم يكن من الأم التي تسعى لسعادة ابنها إلا أن توافق على ما أراد وتسارع للسؤال عن التي غيّرت حال ابنها، عن العروس التي أَسَرَت فؤاده وفي حبها هوى...
 
غير أنه ما باح لها بسره واعتذر لها، لأنه يعرف أنه إذا أخبرها لن ترضى وقال لها يداعب خاطرها: "أماه، بعد حين من الزمان ستكون حكايتي قصة تروى، وستزفين ابنك عروسًا لمن أحبها وعشقته وسيكون لي من رضاك يا أماه ما يبتغي الفتى من المنى..." 
 
علم أنه لومد اليمين لخطبتها  لحال بينهما زمان الأسى ولفرق بينهما قهر الظلم ومضى، ومرت الأيام، ومازال الحالم كل صباح يغدو إلى التل يراقب محبوبته، و ينتظر إشراقة النهار ويتابع تحركاتها حتى المساء، يرسل إليها شوقه مع النسيم العابر، ومع السحاب الماطر، تتقاطر زخاته أشواقًا إليها، وإذا أسدل الليل ستره ناجى القمر أن يخبرها سرا...

لقد عزم على خطبتها، وحدد لذلك الموعد، فإلى متى سيبقى يعيش في لوعة الشوق وحرقة البعاد؟!
على حدود منازلها وقف، وهو يحمل مهرها والروح تشتاق لتعانقها والود منه قد سبق الزمان إليها، يناديها أيا ساكنة الفؤاد أبصريني ومديني بالقوة واحضنيني...
 
وانطلق مع رفاق العشق للأرض التي أحبوها وعشقوها يسابقون للوصول إليها، هناك على حدود الوطن المقيد بكلاليب قهر الظلم والعدوان، كان اللقاء وكان العناق وكان للعاشق قصة تروى على مر الزمان...
 
هاهي ذرات الفؤاد تمتزج بترب الوطن المسلوب قهرا، وتعانق هواه المأسور، بعدما أصاب من مغتصب محبوبته من أصاب وقتل منهم من قتل... وسهم الغدر اخترق الصدر الذي حمل الحب والعشق للوطن.
هاهي اللحظة التي كان يرقبها من فوق التلال يناجيها، ويراقب عدوه يرتاع في روابيها، هي اللحظة التي حلم أن يكون بين سحرها ونحرها والدمع من مآقيها أنهارا تغسل وجهه الباسم ويغرق فيها جسده الطاهر عشقًا...
 
وضمته الأرض التي عشقها فهامت به وهام بها...
 مع أوراق الخريف المتناثرة، رحل العاشق الحالم عن عيني أمه التي تمنت رؤيته عروسًا، وهي تزغرد فهذا يوم عرسك يا ولدي، وكلماته ترن في أذنها:"....ستزفين ابنك عروسًا لمن أحبها وعشقته وسيكون لي من رضاك يا أماه ما يبتغي الفتى من المنى..." 
 
زُفّ العروس الذي كان يهيم عشقًا، زفّ إلى جنان الخلد تستقبله الحور بأبهى حللها، والثغر ضاحك ليلاقيها...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين