رويدك يا صاحبي! اترك لنا مساحة للاختلاف..!!

رسالة مفتوحة

 

رُويدَكَ يا صَاحِبي.! اُترُك لنا مَسَاحةً للاختِلاف..!!

في كثير من الأحوال إن لم نقل كلّها تُعرض مسائل أو مواقف اجتهاديّة، تختلف فيها أنظار المَشايخ وطلاّب العلم؛ بين مانع ومجيز، ومرخّص وسالك سبيل العزيمة..

وإذ هي محلّ اختلاف الأنظار والاجتهادات فهي إذن من فروع العلم، لا أصوله القطعيّة، وإلاّ لمَا اختلف الناس فيها، وتنوّعت اجتهاداتهم.. وهذا الأمر من بدهيّ المَسائل، في فروع العقيدة، والفقه، وأصوله، وهو يعمّ سائر العلوم الشرعيّة والإنسانيّة.. ولا يحتاج عند طلاّب العلم إلى شَيء من البرهان والتدليل...

 

ولقد مرّ علينا زمن رأينا بعض العلماء والمَشايخ يلحقون هذه المَسائل الظنّيّة، بالمَسائل القطعيّة، فلا يقبلون فيها نظراً ولا خلافاً، ويجهّلون كلّ من يخالفهم الرأي فيها، ويشنّعون عليه أشدّ التشنيع، وربّما اتّهموه في دينه وإيمانه، ونَبتت بذلك نابتة ضيق النظر في الفقه، وفي فهم علوم الشريعة كلّها، وحُمل الناس بذلك على العنت في الأمور، كما نبتت بذلك نابتة التضليل، والتفسيق والتبديع في العقيدة، واحتكار مذهب أهل السنّة والجماعة لحساب فئة محدودة من الناس.. كما ضيّق هؤلاء النظر في كثير من مسائل العلوم، فأصبح الرحب الواسع من سبيل الإسلام وهديه، ومنهجه ومبادئه ضيّقاً حرجاً، أشبه بأسلوب رجال الدين النصرانيّ في القرون الوسطى..

 

ونجم عن ذلك ـ ممّا نجم ـ نُفرةُ كثير من شباب الإسلام وأبنائه عن دينهم، بسبب ذلك المَوقف الذي حجب عن الناس جمال الإسلام وروحه، وحيويّته ومرونته..

ثمّ استعاد الإسلام بحمد الله صورته الحقيقيّة المُشرقة، ومنهجه المَنطقيّ الحقّ، الذي يُعطي كلّ أمر حقّه، ويزنه وزنه، فلا يسوّي الباحث المُنصف بين المُختلفات، كما لا يخالف بين المُتشابهات، كما لا يحتكر فهم الإسلام لفئة أو مذهب، ولا يتسلّط على عقول الناس وقلوبهم تبعاً لذلك..

 

ولكنّنا لا نَزالُ بين الحين والآخر نَرى لوثةً فكريّةً، أو عِلّةً نفسيّةً، أو مزيجاً منهما، تطفو على لسَان بعض المَشايخ وطلاّب العلم وكتاباتهم، وكأنّها لا تزال متأثّرة بتلك العقليّة الدخيلة على الفكر الإسلاميّ وعلومه، وتريد أن تستجرّ الناس إليها، وتعيد تلك المَرحلة الخاطئة سيرتها الأولى.. فتنحو في كتاباتها، وعرضها لآرائها منحى القطعيّة والجزم، والاعتداد بالرأي إلى درجة النظرة الحدّيّة للأمور: أسود أو أبيض.. وتقلّل من قيمة الرأي الآخر في فروع من المَسائل، إلى درجة الانتقاص وتسفيه المُخالفين، وكأنّ هؤلاء وحدهم يدافعون عن قيم الإسلام الكبرى وقطعيّاته.. وهم يقعون من حيث لا يشعرون بمثل الداء الذي يعيبونه على الآخرين..

 

وإنّه بكلّ نصح وصراحة لنوع من الإرهاب الفكريّ والدعشنة، التي لا نرتضيها لأيّ أخ من إخواننا.. وهي قد تُبرَّرُ لمُبتدئ في طلب العلم غِرّ، خطا خطواته الأولى في طريقه، فظنّ أنّ ما حصّله هو كلّ شيء، وفرح بما أوتي، فظنّ أنّ هذا الفَتحَ قد خُصّ به من دون سائر الناس، وربّما دفعه ذلك الظنّ الغرير إلى أن يتطاول على أساتذته ومشايخه، بله زملائه وأقرانه.. ونقول له: رُويدَكَ.! رُويدَكَ.! فأنت في أوّل الطريق.. فإن أصررتَ على أسلوبك وطريقتك فستقفُ مُتخبّطاً مُتحيّراً، ثمّ تَنقطعُ، سنّة الله فيمن أنت على شاكلته..

ولو طالعت منهج السلف والأئمّة، وأدبهم في أخذ العلم، وتواضعهم، وإنصافهم في التعامل مع أهله لرأيته بعيداً غاية البعد عن طريقتك وأسلوبك، فهلاّ أخذت بقول الحقّ سبحانه: {... فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...}[الأنعام:90]. لتكون من الراشدين المَهديّين.!؟

 

فممّا جاء عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، في إنصافه، وبعده عن الاعتداد باجتهاده قوله: « هذا أحسَنُ ما عندنا فمَن جاءنا بخير منه قُلناه » أو قَبلناه.

 

ومن الأخبار المَشهورة أيضاً أنّ الإمام العزّ بن عبد السلام، رحمه الله، أفتى سائلاً بفَتوى، فلمّا انصرف السائل تبيّن للعزّ أنّه قد أخطأ في فتواه، فأمر منادياً ينادي في طرقات المَدينة: مَن سأل العزّ بن عبد السلام في مسألة كذا، فليرجع إليه، فإنّه قد أخطأ في إجابته. وقد تكرّر مثل هذا المَوقف عن عدد من الأئمّة، ممّا يدلّ على أنّه كان أخلاقيّة منهجيّة شائعة متوارثة، باعثها الأوّل خوف الله تعالى وتقواه، ودقّة الشعور بأمانة العلم ومسئوليّته..

ومواقف العلماء والأئمّة من هذا القبيل في كتبهم ومؤلّفاتهم كثيرة لا تحصر.. وكلّها يؤكّد هذا المَنهج المَوضُوعيّ، المُفعم بالتواضع والأدب..

 

وفي ختام هذه الكلمة أحبّ التذكير ببعض الحقائق العلميّة والخبرات الحياتيّة، التي لا يخالف فيها أيّ طالب علم، لكنّه قد يغفل عنها، أو يتجاهلها في غمرة الحوار والجدال مع الآخرين:

1) * المَصالح المُطلقة أو المَفاسد المُطلقة قليلة جدّاً.. وأكثر المَصالح والمَفاسد نسبيّة، يرجّح فيها أمر على آخر.. واجتهاد المُجتهدين هو في ضبط المَصالح والمَفاسد وتقدير نسبتها بموازينها الشرعيّة، وفي المُوازنة بين المَصالح، وترجيح بعضها على بعض، وفي المُوازنة بين المَصالح والمَفاسد بميزان الشريعة لا الأهواء.

 

2) * وأنّ هذا النظر العلميّ يجب أن يصدر من أهل الاختصاص الشرعيّ، الذين هم أهل الذكر، الذين أمرنا الله تعالى بالرجوع إليهم: {... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

 

3) * ولا تنس أنّ المَوضوعيّة والمَنهجيّة في البحث لا تسمح لك أن تدّعي ملك الحقيقة القطعيّة إلاّ في قلّة من المَسائل قليلة، التي لا يختلف الناس فيها معك، فطامن من دعاواك، وحدّيّة الجزم بالرأي، وتابع البحث والنظر..

 

4) * واعلم أنّ من سعة علمك وحكمتك أن يتّسع نظرك لفهم الرأي الآخر، واستيعاب توجّهه، فقد يُفتحُ لك برأيه ونظره ما لا تهتدي إليه بعلمك وفكرك، فلا تستهن بما عند غيرك..

 

5) * في مجال تخصّصك، وخبراتك فيه، وخبراتك في الحياة عامّة، ومزاجك الخاصّ، الذي ألفته وألفك اجزم برأيك كما تشاء، فلا حرج عليك ولا تثريب، فالأمر في ذلك واسع، وحقّك محفوظ في ذلك كحقّ الآخرين..

 

6) * ولا يغرّنك أيّها الكاتب على صفحة الفيس كثرة المُعجبين والمُتابعين فأكثرهم ـ إن لم نقل كلّهم ـ ليسوا من أهل الاختصاص، والقدرة على النقد العلميّ المُنضبط.

وتأسيساً على ما قلت أعلاه، وكيلا يخالف الفعل منّي القول، خذ ما شئت من قولي أو دع، فلا حرج عليك ولا تثريب، على أن يكون رائدك الحقّ، لا الانتصار للرأي.. ولا أصادر حقّك في الاختلاف المَشروع، فأكون ممّن ينهى عن أمر، ويأتي مثله، وكفى بذلك مُنكراً مذموماً. والحمد لله أوّلاً وآخراً.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين