روائع قرآنية -23-

الرائعة القرآنية الثالثة والعشرون :

قال الله تعالى : (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَماً كثيراً وسعة ) [النساء / 100]

لنا مع هذه الآية وقفتان :

1-(ومن يهاجر) إنها الهجرة إذن ، لكنها الهجرة في سبيل الله حصراً ، ولا يندرج تحتها أي لون من ألوان الهجرة التي تكون لأغراض دنيوية بحتة . لقوله صلى الله عليه وسلم : ((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ))البخاري/إيمان-41، ومسلم/إمارة-155، فإذا توفر في الهجرة شرط كونها خالصة لله ، تحقق الجواب بأن يجد المهاجر :

2- (مراغماً كثيراً وسعة) وتستوقفنا (مراغَماً) لِمَ كانت دون سواها ؟ والجواب والله أعلم لما فيها من الأبعاد اللغوية التي ليست لغيرها. جاء في تفسير القرطبي:[المراغم: المتزحزح ..والمتحوَّل...والمهاجَر..والمبتغى للمعيشة] وقيل : المندوحة عما يكره ، وقيل غير ذلك ، لكن المعنى الرائع الذي يشد انتباهنا ويبهرنا هو ما ذكره القرطبي أيضاً [ والمراغم موضع المراغمة ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ، فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم ] فالمهاجر في سبيل الله الذي تخلص من قبضة الطواغيت في دنيانا اليوم

مع كثرة العملاء والمخبرين ، وانتشار الحراس المتيقظين قد وجد مندوحة عما يكره ، فمرَّغ أنوف خصومه في التراب وأذلهم مرتين : مرة لأنه خيَّب آمالهم في القبض عليه وسجنه أو قتله ، ومرة لأنه وجد في البلد المضياف من النعمة والرزق والخير ما جعل خصومه الذين فاتهم يتميزون من الغيظ ، فيقلّبون أيديهم ويضربون وجوههم وأدبارهم ، فرغمت بذلك أنوفهم. فسبحان الله ما أروع البيان في القرآن !

الرائعة القرآنية الرابعة والعشرون

قال تعالى :( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خَبَتْ زدناهم سعيراً ) الإسراء/97

 الآية ترسم مشاهد رائعة لصورة الحشر المخزية التي يكون عليها المجرمون يوم يحشرون . تتجلى في ثلاثة مواقف :

 1-(نحشرهم) الحشر: جمع الناس من مواضع متفرقة ، ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عُدّي الحشر بحرف على لتضمينه معنى يمشون. جاء في تفسير النسفي:[وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم.]

وفي تفسير ابن عاشور : [والمقصود من ذلك الجمع بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملاً لصلابة الأرض من الرِّجل وهذا جزاء مناسب للجرم لأنهم روجوا الضلالة في صورة الحق، ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاء مشي عوضاً عن الأرجل.]فتأمل!

2- (عمياً وبكماً وصماً) في هذه الكلمات الثلاث ، وبهذا الترتيب خلافاً لترتيبها في المواضع الأخرى من القرآن حيث كانت (صم بكم عمي) نجد صورة رائعة أخرى تتجلى في هذا الترتيب البديع للكلمات بما يتناسب والسياق ، ذلك أنه لما كان السائر حاجته إلى البصر ليرى طريقه أهم عنده من السمع والكلام ناسب تقدم (عمياً) ، ولما صاروا عمياً صاروا أحوج إلى الكلام ليسألوا عن الطريق لعلهم يهتدون ، فناسب  مجيء (بكماً) ليمتنعوا عن الكلام ، ثم جاءت الأقل أهمية وحاجة وهي (صُمّاً) حتى لا يسمعوا شيئاً أبداً ربما يصدر من أي مكان ، حتى يبقوا في غَيهم يعمهون .

3- ثم تأمل (كلما خبت زدناهم سعيراً) والسعير لهب النار، وهنا إشكال وهو أن نار جهنم لا تخبو أي لا يخف لهيبها ، لأنه لو حدث ذلك لخف العذاب على المجرمين من أهل النار، والله يقول (فلا يخفف عنهم العذاب) لكن هذا الإشكال يزول حين نقرأ (زدناهم) وليس زدناها مع أن الحديث عن النار(خبت)، وهذا يعني أن الذي يخبو هو النار المنبعثة من المجرمين المحترقين وقود النار ، فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعداً من أجسامهم ، فلا يلبثون أن يُعادوا كما كانوا ، فيعود الالتهاب لهم ، فالخبوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل النار.

وهنا لك أن تتخيل فظاعة المشهد في هذه اللوحة الفنية الأخاذة ، إذ تشدك وتبهرك، وتدفعك أن تصرخ من أعماقك : سبحانك ربي ما أعدلك ! أن صيَّرت المجرمين إلى هذه الحال ، وشفيت صدور المعذبين في الأرض .

 فما أروع البيان في آي القرآن !       

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين