رمضان وكوفيد .. لطف وتيسير

يعجِز القلم، ويكَلُّ اللسان، وتخبت النفس، ويطمئن الجَنان، بشهود ألطاف الله ورحماته التي توافينا تترى؛ ندرك بعضها ونعيها، ويخفى علينا معظمها ولا نحصيها، (وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ ٱلله لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱلله لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ). [النحل : 18]

فسبحانك اللهم من مُنعمٍ كريمٍ، وربٍّ رحيمٍ، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

ومن رحمته سبحانه وتعالى ما يُنزل من المعونة المصاحبة للبلاء، وما يُقدِّر من التدبير الموافق لمصلحة عباده في السراء والضراء، فلا تخلو مِحَنه من مِنَحه الجِسام، ولا ابتلاءاته من عطاياه العظام، فله الحمد في الشدة والرخاء، والصحة والبلاء، والراحة واللَّأواء، حمدًا يليق بجلاله وكماله وفضله وإحسانه.

وقد مرَّت شهور والوباء منتشر يعصف بالبلاد والعباد، وأنا مسلَّمٌ معافًى، لم يمسَّني ضُرٌ أو يصبني أذًى، أسمع أحوال المصابين، فآسى لما نابهم من شدة وإعياء، ولا أملك إلا الدعاء، وكثيرون قضى الله عليهم بالموت، حتى صارت أيامنا أشبه بسرادقَ طويلٍ ممتدٍّ للعزاء، نصبح على خبر وفاة قريب، ونمسي على فاجعة فقد حبيب، وإحصاءات الإصابات والوفَيَات في العالم تشتد تقلُّبًا في نشرات الأخبار، وتنذر بفناء يتخطَّف الناس كأشد إعصار.

وبعد تلك الشهور المتطاولة من السلامة والعافية يشاء الله أن أُصاب، ويكون من حسن تدبيره، وجميل تقديره، أن يوافيَني المرض في أوفق زمان، وألطف حال، في وقت حظر عام، فلم أنقطع به عن مهم العمل، وفي رمضان شهر الرجاء والأمل، وعادتي أن أستقبل الشهر الكريم بحِمية، أمتنع فيها عن السكر الصناعي والنشويات امتناعًا تامًّا، ولا أتناول إلا طعامًا صحيًّا متوازنًا، وأُكثر من الأغذية رافعة المناعة، فجاءني هذا المرض وأنا في أصحِّ حالات البدن، وأرفعها مناعةً، ولم أُبتلَ من أعراضه إلا بما هو أوفق لي وأرفق بي، فكانت الأعراض هضميةً لا تنفسيةً، ولو جاءتني تنفسيةً لأضنتني، فبيسير الالتهاب أجد مشقةً وحرجًا في التنفس، فما كان حالي مع ذلك الكوفيد لو غزا صدري وأفسد رئتي؟

وأكرمني ربي، فوعيت لتلك الأعراض من المواعظ، ما أوقظ في نفسي من جليل المعاني، ما لا تفي بحقه أفصح الألفاظ، وأبلغ المباني، فوهن جسمي يدلُّني على ضعفي وافتقاري في كل حركة وسَكَنة إلى الخالق العظيم، القوي المتين.

وارتفاع حرارتي يذكِّرني بنار تلظَّى تكاد تميَّز من الغيظ حنقًا على المخالفين.

وصداع رأسي بما يصاحبه من ضعف قوة التعقُّل يُشعِرني بعظيم منَّة الله على بني آدم بالعقل السليم.

وحرقة عينيَّ كمسهَّد شهر مع نومي الساعات الطوال تعظني بأن الأسباب لا تغني شيئًا إن لم يشأ ربها ومسبِّبها.

والنوم الطويل الذي يقطعني عن العالم فأنهض منه متعبًا غير مرتاح، يُفزعني من يقظةٍ بعد الموتة الكبرى، أن لا أكون فيها سليمًا مرتاحًا.

واستطلاق بطني يبرهن على عجزي وقلة حيلتي دون معونة ربي وعافية مولاي، وبلطفه الكبير جعله متقطِّعًا، فاستطعت أن أتطبَّب في بيتي، وحفظ على زوجي صحتها، فما نابها مما اعتراني شيء، وكانت نعم الطبيبة والممرضة، والمعينة والمؤنسة، ولو كان الإسهال مستمرًّا لألجأني إلى المستشفيات، وما لا أحبه من التداوي في عصر صار فيه الطب تجارةً، والأطباء تجارًا، إلا من رحم الله وعصم.

يا لهذا المرض!

كم فيه من الآيات والعبر!

وكم وافاني معه ربي بالألطاف والمِنن!

ولله درُّ القائل: لطفه يجري، وعبده لا يدري. وإن من أعظم ألطافه عزَّ وجلَّ أن ما قطعني عنه في ضعفي، ولا ابتلاني بوهن في قلبي، فكنت دائرًا مع أقداره، متفكِّرًا في حِكمه وأسراره، وليست نعمة أكبر ولا أعظم من نعمة استقرار القلب عند تقلُّب الأحوال. فاللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تصرِّف قلوبنا إلا بما يرضيك عنا.

ثم نعمة الأخ الصالح، وما أدراك ما الأخ الصالح! جنة في الدنيا، ووطن مع الغربة، وبلسم للجروح، وشفاء للقُروح، يفقِدك يومًا أو يومين، فيبادر بالسؤال والاطمئنان، ثم لا ينقطع عنك مع كثرة أعبائه، وتزاحم أشغاله، سائلًا وداعيًا، ناصحًا ومرشدًا، يتابع حالتك يومًا بيوم. وآخر يعلم بمرضك مصادفة فيخاطر بالخروج في الحظر ليأتيك بالعسل والأدوية دون أن تطلبها. وثالث يضع عند باب البيت من الطيبات واللذائذ ما لا ينفد بشهر، ويرسل إليك رسالة: لم أُرِد إزعاجك، فتركت لك على الباب هدية. ورابع يستشير الأطباء، ويوافيك بالنصائح والوصفات. وخامس يتصل مستفسرًا، وقد شعر من تغير نشاطك الإلكتروني أنك على غير المعهود، مع حرصك على أن تبقى حسابات التواصل نشطة لئلا تشعر الوالدة بمرضك، فتقلق وتحزن وهي بعيدة، إي والله ما زال في هذه الأيام من يستشعر حال إخوانه من تغير نمط نشاطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فاللهم لا تُخلِ الدنيا من أمثاله.

ألا ما أكرم الإخوة الصادقين!

وما أطيب ودَّهم! و ما أجمل وصلهم!

فاللهم اجزهم عني خير ما جزيت أخًا عن أخيه، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وأكرمني بلقائهم في ظل عرشك، وعلى منابر النور.

وثالثة النعم؛ ما منَّ الله به من تيسير الشرائع، فلا تعتري المسلم حالة إلا يجد لها في الدين ما يعينه على طاعة ربه، بما هو موافق له، ويسير عليه.

يمرض المرء فيُحِلُّ الله له الفطر على أن يقضي عدةً من أيام أُخَر في غير رمضان. وإني أحمد الله أن أعانني فما أفطرت يومًا، ولا وجدت في صيامي مشقةً أو عنتًا.

ينتاب المسلمَ التعبُ فلا يقدر على قراءة القرآن في شهر القرآن، فيجد الفرج والمخرج في قول النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم عبد رضي الله عنه: (إني أحبُّ أن أسمعَه من غيري)، فينتقي من التسجيلات للقراء المتقنين ما يشرح الصدر، ويحيي القلب، ويتعبَّد مستمعًا منصتًا، إذ عجز أن يتعبَّد تاليًا.

تتزين الليالي في رمضان للقائمين، فتتوق نفس العبد إلى قيام وتبتل، ودعاء وتوسل، ويُقعده الإعياء، فيسلِّيه ربه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كُتبَ له مثلُ ما كان يعملُ مقيمًا صحيحًا).

وإني في اللية الحادية والعشرين قد عجَزت عن غير العِشاء، فاستلقيت مطمئنًا مؤمِّلًا من ربي خيرًا؛ أجر القيام، وأجر السَّقام.

وفي الليلة الخامسة والعشرين ثقُل علي المرض فما شعرت وقت الغروب، وما أفطرت ولا صليت المغرب والعشاء إلا قبيل منتصف الليل، (من نام عن الصلاة أو نسيها، فليُصلِّها إذا ذكرها، لا كفارةَ لها إلا ذلك)، وهممت أن أتنفَّل فكَللتُ وأعييتُ، وغلبتني عيني، فما انتبهتُ إلا والصبح قد انبلج وأضاء كلَّ شيء، فركبني الهم، وعظُم في صدري الغم، وأتتني الظنون ملحاحةً تؤذيني: لعله حرمانٌ بذنب، أو كرِهَ الله انبعاثك فأنامك عن قيام وسَحَر!

ثم ذكرت هدي نبيي صلى الله عليه وسلم: (كان إِذا غَلَبَهُ نومٌ أو وَجَعٌ عن قيامِ الليلِ صَلَّى من النهارِ ثِنْتَيْ عشْرةَ ركعةً)، فسكن ما جاش في صدري، ولما ارتفعت الشمس قِيد رُمحٍ تحاملت على نفسي، وصليت بسورة الصمد أسجد بها وأركع ثنتي عشرة ركعة. وتالله؛ ما صليت في كل الشهر صلاة أخشع ولا أهنأ من هذه الركيعات الخفيفات في الضحى، وقد أنزل الله بها ومعها من السكينة والطمأنينة ما تمنيت أن يصحبني ما حييت، واستبشرت بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما مِن امرِئٍ تكونُ له صلاةٌ بليلٍ، يَغلِبُه عليها نومٌ، إلَّا كُتِب له أجرُ صلاتِه، وكان نومُه عليه صدقةً). وسجد قلبي لله شكرًا.

ألا ما أكرم الله!

ألا ما أعظم الله!

ألا ما أحكم شرعه، وأيسر دينه!

(إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡبَرُّ ٱلرَّحِیمُ). [الطور : 28]

يبَرُّ عباده على ما فيهم من التقصير وسوء التدبير، ويرحم ضعفهم، فيشرع لكل أحوالهم ما يقدرون عليه، ولا يقنِّطهم من رحمته، ولا يعجزهم عن طاعته، ويوفِّقهم إلى القيام بما فيه جبر قلوبهم، وصلاح حالهم، وفلاح دنياهم وأخراهم.

فاللهم لا تقطع عنا بِرَّك، وأدخلنا في رحمتك، إنَّا عبادُك، ما عبدناك حقَّ عبادتك، لكنَّا أيقنَّا أنك بحقٍّ وحدَك المعبود، وإنَّا على ذلك من الشهود، فأكرمنا بخير موعود.

(وَعَدَ ٱلله ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱ مِّنَ ٱلله أَكۡبَرُۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ). [التوبة : 72]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين