رمضان والقرآن

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون: إن مما فضل الله به شهر رمضان على غيره من الشهور أنه جعله محلا لنزول القرآن، فرمضان شهر القرآن، وحسْبُه ذلك شرفا وفضلا.

قال الله تعالى: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ( [البقرة: 185]، أرأيتم معاشر الإخوة كيف قال ربنا سبحانه: )أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ(، ولم يصفه بغير هذه الصفة، إنها الصلة الوثيقة المقدسة بين رمضان والقرآن، بدأت منذ ذلك اليوم المبارك الذي تجاوبت فيه جبال مكة وفِجاجها مع أصداء )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( [العلق: 1 - 5]، فرمضان شهر القرآن، شهر نزوله وقراءته ومدارسته والقيام والجهاد به، شهر نفحاته وبركاته وألطافه.

ومن جلال القرآن وعظمته أن الله لم يُنزله مرة واحدة كغيره من الكتب التي نزلت على الأنبياء قبل نبينا r، بل أنزله الله تعالى مرتين:

الأولى: نزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ أنْ يُحْدِثَ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا أَنْزَلَهُ مِنْهُ حَتَّى جَمَعَهُ"([1]).

والثانية: نزوله مفرقا منجَّما من السماء الدنيا على قلب النبي r، ويدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ظاهر([2]) قوله تعالى: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ(  [البقرة: 185]، وقوله سبحانه: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ( [الدخان: 3]، وقوله: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ( [القدر: 1]، فهذه الآيات إخبار عن ابتداء نزول القرآن، فكما أنه نزل جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا= كذلك ابتدأ نزولُه فيها على النبي r([3])، فالنزولان حاصلان في ليلة القدر في شهر رمضان.

والمقصود هنا معاشر الإخوة: بيان تشريف الله لهذا الشهر بإنزال القرآن فيه، ولهذا المعنى -والله أعلم- كان جبريل يدارس النبيَّ r القرآن في رمضان.

جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ r أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".

وفي حديث فاطمة رضي الله عنها عن أبيها r أخبرها: (أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ [يعني الذي توفي فيه] مَرَّتَيْنِ)([4]).

 فهذا اللقاء العظيم بين الأمينين كان يحصل في ليالي رمضان، يعرض([5]) فيه النبي r على جبريل ما نزل من القرآن، ويعرض جبريل([6]) عليه كذلك، ويدارسه في ألفاظه ومعانيه، فيحصل له r بذلك خير عظيم، ومن ذلك كثرة جوده وإنفاقه، فهذا من بركات قراءة القرآن ومدارسته، ولهذا كان جوده r في رمضان أكثرَ من غيره.

ويستفاد من هذه الأحاديث معاشر الإخوة استحبابُ قراءة القرآن ودراسته في رمضان، والاجتماع على ذلك، سيما في الليل، فإنه "تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع الهمم، ويتواطأ القلب واللسان على التدبر، كما قال تعالى: )إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا( [المزمل: 6]"([7])، ومن فقه السلف رحمهم الله أن عنايتهم بالقرآن كانت تعظم في رمضان، فكانوا يقبلون عليه قراءة وقياما ودرسا.

كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.

وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.

وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.

وقال سفيان: كان زُبَيْد ٌاليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.

وكانوا y يحرصون على ختم القرآن وتلاوته في رمضان في الصلاة وغيرها، فكان بعضهم يختم كل ليلة، وبعضهم يختم كل ليلتين، وبعضهم يختم كل ثلاث، وبعضهم يختم كل سبع، وبعضهم يختم كل عشر.

وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كلَّ ليلة. وعن مجاهد أنه كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلة.

وكان الشافعي يختم في رمضان ستين ختمة يقرؤها في غير الصلاة([8]).

والختم في رمضان أيها الإخوة سنة نبينا مع جبريل عليهما الصلاة والسلام، ولا زال عليها المسلمون إلى يومنا هذا، واستحب أكثر أهل العلم للأئمة أن يختموا في قيام رمضان، بل هذا من أعظم مقاصد القيام كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما قراءة القرآن في التراويح فمستحب باتفاق أئمة المسلمين، بل من أجَلِّ مقصود التراويح قراءةُ القرآن فيها؛ ليسمع المسلمون كلام الله"([9]).

فأقبلوا يا عباد الله في شهركم هذا على كتاب ربكم، وانهَلوا من معينه، والتمسوا من بركته، وأسمعوا الكون دويَّكم به. اقرؤوه في الصلاة وخارجَها، اقرؤوه في الليل والنهار، اقرؤوه مع الأهل ومع الأصحاب، اقرؤوه في البيوت والمساجد والمجامع، فشهركم هذا شهر القرآن.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا عباد الله: إن من أجل نعم الله تعالى على هذه الأمة المباركة تشريفَها بإنزال القرآن، هذا الكتاب العظيم الجليل الذي ما عرفت البشرية في تاريخها الطويل كتابا أجلَّ منه.

حمِد الله نفسه على إنزاله فقال: )الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا( [الكهف: 1].

وامتنَّ به على عباده فقال: )أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( [العنكبوت: 51].

وأقامه جل وعلا سبيل هداية، وحبل نجاة، يُخرج به العبادَ من ظلمات الشرك والجهل والضلال إلى أنوار التوحيد والعلم والهدى، قال جل شأنه: )قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( [المائدة: 15،16].

فاحفظوا يا عباد الله لكتاب ربكم حقه، وارعَوا حرمته، واستكثروا في هذا الشهر من تلاوته، فإن الله وعدكم على ذلك بالأجر العظيم، والثواب الجزيل.

واحرصوا -رحمكم الله- على تفهم معانيه، ومعرفة أحكامه، فإنه المقصود الأعظم لإنزاله على نبيكم r، قال تعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [النحل: 44].

ولا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة والختمة فيهُذَّه هذًّا، بل اقرؤوه بترسل وسكينة وتدبر واعتبار واتعاظ، فهذا من المقاصد العظيمة لإنزال القرآن )كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ( [ص: 29].

والقلب الذي لا يتدبر القرآن، ولا يتعظ ويدَّكِر به قلب مُقْفَل، مطبوع عليه طابَعُ الغفلة والشقاء، قال سبحانه: )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( [محمد: 24].

واعلموا يا عباد الله أن الله تعالى إنما أنزل القرآن ليُعمل به، ويُحتكم إليه، وتُصدَّق أخباره، ويُوْقَف عند أوامره ونواهيه، ولا والله لا ينتفع العبد بشيء من تلاوته وحفظه وفهمه حتى يعمل به، وينقاد له.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.

اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدِك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدَنا وسابقنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم، اللهم ذكرنا منه ما نُسِّينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بمتشابهه، ويعمل بمحكمه، ويتلوه حق تلاوته.

الله ألبسنا به الحُلل، وأسكنا به الظُّلل، وزدنا به من النعم، وادفع عنا به النقم، واجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل يا ربنا وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، وأنت يا مؤذن أقم الصلاة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) أخرجه ابن جرير في "تفسيره"، والحاكم في "المستدرك"، وإسناده صحيح، وهذا الخبر عن ابن عباس مروي من وجوه كثيرة، ومثله لا يقال من جهة الرأي؛ فله حكم المرفوع.

([2]) قلنا الظاهر لأن سياق الآيات يشير إليه، ففيها بيان حصول الهداية والنذارة بهذا النزول، وهذا لم يحصل بنزول القرآن إلى السماء الدنيا، بل بنزوله مفرقا على نبينا r. أشار إلى هذا المعنى الشيخ مساعد الطيار في رسالة لطيفة بعنوان "الحال مع القرآن في رمضان" (ص7)، وهو استنباط حسن جميل، ووجه من وجوه تفسير الآي اختاره جماعة من أهل العلم.

([3]) "ولا مانع من أن يتفق النزولان في أن يكونا في ليلة القدر، فتكونَ الآية [)إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(] محتملة للأمرين معا، ويكون ابن عباس رضي الله عنهما أراد التنبيه على هذا النوع من النزول [أي الجُملي] الذي لا يدرك إلا بالخبر، بخلاف النوع الثاني [المنجَّم] الذي يدل عليه ظاهر التنزيل، والله أعلم". المحرر في علوم القرآن (ص74) للشيخ مساعد الطيار.

([4]) أخرجه الشيخان من حديث عائشة، ترويه عن فاطمة رضي الله عنهما.

([5]) العرض: القراءة، وكذلك المدارسة، ولا مانع أن يتخلل ذلك درسٌ لمعانيه وأحكامه.

([6]) جاءت الروايات بما يفيد وقوع العرض من كل واحد منهما -عليهما الصلاة والسلام- على صاحبه. انظر: فتح الباري (9/45).

([7]) لطائف المعارف (ص302).

([8]) هذا الخبر وما قبله مما ذُكر من حال السلف مع القرآن في رمضان مستفاد غالبه من "لطائف المعارف" (ص305) بتصرف يسير.

([9]) مجموع الفتاوى (23/ 122).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين