رمضان في زمن الكورنا آلام وآمال

يأتينا رمضان هذه السنة ، ونفوسنا موزعة بين آلام اليوم ، وآمال الغد؟

آلام الواقع حيث داهمنا هذا الوباء الخطير فيروس كورنا المستجد الذي خيم بظلاله القاتمة على العالم ، فالأرواح التي تزهق جراؤه بالآلاف ، والمصابون بالملايين ، والخسائر الاقتصادية بالمليارات ، وبات المسلم في منزله مقيد الحركة ، فقد أُقفلت المساجد ، وأَغلقت المدارس والمعاهد والجامعات أبوابها .فلا يسعنا أن نبادر للقياك يا رمضان كعادتنا معك كل عام .

أما آمال المستقبل فأنت عنوانها يا رمضان ، بك نستبشر في فرج قريب لأمتنا ولكل المظلومين ، جئتنا يا شهر النصر والنفوس تتشوق لانحسار هذا الوباء ، وعودة الحياة لا لسابق عهدها المادي المخيف ، بل لإنسانية تكفل الضعيف ، وتؤي الطريد ، وتملأ بعدلها أرجاء الدنيا ، نلقاك غدا يا رمضان ولسان حالنا :

أَشْرَقَ النُّورُ هِلالاً=مِنْ حَنَايَا الدَّاجِيَاتِ

يَحْمِلُ البُشْرَى رَجَاءً=لِلنُّفُوسِ القَانِطَاتِ

فَيُنِيرُ الرُّوحَ صَفْوًا=كَالدَّرَارِي الزَّاهِرَاتِ

يَتَجَلَّى الحَقُّ فِيهِ=لِلْقُلُوبِ الطَّاهِرَاتِ

وَالمَعَانِي فِيهِ تَسْمُو=عَنْ وَضِيعِ الرَّغَبَاتِ

وَالأَمَانِي فِي شَذَاهَا=كَالزُّهُورِ اليَانِعَاتِ (1)

ترى مع ثنائية الآم والآمال هذه كيف سيقضي المسلم رمضان هذا العام؟

دعونا نعترف بادئ ذي بدء أن المسلم اليوم ينتابه شعور الاستيحاش الممتزج بآلام الفقد ، حيث النعم التي كنا نرفل فيها ، ولم نقدرها حق قدرها ، ونستثمرها الاستثمار الأمثل حينها ، ها نحن اليوم محرومون منها ، أو من بعضها ، محرومون من الجمع والجماعات ، وحرية الحركة ، وملاقاة الأصدقاء والخلان ، وقد قيل "من لم يعرف قدر النعم بوجدانها عرفها بوجود فقدانها " (2)

وياله من ألم ! ألم الفقد والحسرة معا ، إذ يخامرنا شعور قاس بالتقصير ، فما شعرنا بقيمة النعمة التي كانت بين أيدينا إلا بعد زوالها ، وقد كانت تلك النعم المفقودة هي غذاء أرواحنا المعذبة ، وجلاء قلوبنا التي صدأت جراء الانغماس في دوامة الحياة ، ونحن نمضي معها دون كلل أو ملل ، وكانت تلك النعم هدأة ومنجاة لنفوسنا التي كادت تفترسها مكينة الحياة بتروسها التي لا ترحم .

وكم كانت هذه الأزمة كاشفة لطيات النفوس ، فحين ننظر بعمق لحال بعض المتدينين نجد من كان يَدل بصلواته وصدقاته ، ويُعجب بها ، بل يكاد يُمن بها على مولاه ، الآن تقول له الأزمة الراهنة بملء فيها عرفت يا هذا حق المعرفة أن الله لا تنفعه طاعتك ، ولا تضره معصيتك ، والفائدة في الطاعة لك ، والضرر في المعصية عليك ، وأنك مسكين لا حول لك ولا قوة .

ألا ما أجمل هذا الحديث القدسي الذي يذّكر الله فيه عباده بأفضاله ، ومننه الكبرى عليهم قائلا :"....يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. .."(3) وصدق الله العظيم إذ يقول :" يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ " الحجرات ١٧. فحقيق بنا أيها المسلمون أن نرفع أكف الضراعة إلى الله قائلين :" إلهنا إن ظهرت المحاسن منا فبفضلك ولك المنة علينا ،وإن ظهرت المساوئ فبعدلك ولك الحجة علينا"(4).

لكن آلام الحرمان تلك يخفف منها علمنا بأن للأقدار أحكامها التي لا ترد ، ويدها العليا التي يجب أن نخضع لها ، أولسنا نؤمن بالقدر خيره وشره ، إذا فعلام الضجر والجؤار بالشكوى في غير تأدب ولا فهم ، لنعلم أن هذه الأحداث إنما جرت بقدر الله الذي لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري حين قال :" سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار"(5) .

الآن آن الأوان لننطلق من هذا الإقرار إلى أمل فسيح ، عبر بديل نأمل فيه من الله الثواب الجزيل ، وهو القائل سبحانه وتعالى :" لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ " البقرة ٢٨٦ 

فلئن كانت أزمة كورنا حرمتنا من صلاة التراويح جماعة في المساجد ، فإن في البيت متسع كي تجتمع الأسر التي طالما باعدت بينها المشاغل ، ووسائل التباعد الاجتماعي ، لتلتقي على الطاعة ، وتنفي عن بيوتها سمت القبور ، وعن نفسها صفة الموتى ، جاء في الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة "(6).

وإن كانت عمرة رمضان قد حيل بينك وبينها فقد نلت الأجر ، وقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله ما يواسيك ، ففي صحيحه عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" إن أقواما خلفنا بالمدينة ، ما سلكنا شعبا ، ولا واديا إلا وهم معنا ، حبسهم العذر "(7)

وما عليك الآن إلا أن تضع أموال هذه العمرة في سد حاجات العالقين ، والمأسورين ، والعمالة التي توقف دخلها ، والمرضى ، فلتقف على" الثغرات التى شاعت فى مجتمعنا واعمل على سدادها فهذا أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى مرضاة الله، وأبعد عن أهواء النفس... إن نفقات حجة واحدة من هذه النوافل تكفى لدفع نفقات الدراسة لنفر من الطلاب الفقراء، وهم أولى، وتكفى لرفع الحجز عن أمتعة نفر من الغارمين المعسرين وهم أولى، وتكفى لطبع بعض الكتب الدينية وتوزيعها بالمجان وذاك أجدى... الخ. " . (8)

ولئن تجرعت أُخي غصص الحرمان من مُدارسة القران وتلاوته بالمساجد ، فيمكنك من الغد الالتحاق بمواقع التحفيظ والمُدارسة التي تعج بها الشبكة العنكبوتية .

وإني لأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يمنحنك رمضان هذا العام فرصة الانقطاع والتبتل التي طالما حلمت بها وبحثت عنها ، لكنك لم تظفر بها لعوائق ومشاغل الحياة ، ألا قد واتتك الفرصة يا صاحبي ، فلم التريث ؟ 

لقد امتاز رمضان هذا العام بتلك المزية ، مزية التبتل الخالص لله وحده ، فلا تلتفتنّ لغيره ولا تنشغلنّ بسواه ، فبيتك هو معتكفك ،ومسجدك ، وحلقتك القرآنية ، وأنت سيدتي الغالية لقد أتى رمضان هذا العام لينتشلك من دوامة المطبخ المضنية ، ومن جولات التسوق المرهقة ، الآن لا مجال لموائد كان ينفق في تزينها بما لذ وطاب أثمن ساعات الليل والنهار ، استعدادا لضيوف لا يتوقف مجيئهم طوال الشهر الكريم . 

ألا إن "الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه ، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه".(9) "فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ" الذاريات ٥٠

1 قصيدة "شهر الأمنيات"، مجلة المنهل، العدد 537الشَّاعر "محمد درويش"

2 الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري صــ71 دارالسلام للطباعة والنشر 2013م

3 رَوَاهُ مُسْلِمٌ في صحيحه برقم [رقم: 2577].

4 الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري صــ 110 دارالسلام للطباعة والنشر 2013م 

5 الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري صــ 5 دارالسلام للطباعة والنشر 2013م

6 رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها جـ1 صــ539 ح( 780)

7 البخاري كتاب الجهاد والسير ج3 ص 1044 ح (2684)

8 الجانب العاطفي من الإسلام محمد الغزالي صـ138 نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع طــ3 2005

9 الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري صـــ91 دارالسلام للطباعة والنشر2013

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين