رمضان شهر الدعاء

للدعاء معن كثيرة منها:

• الرَّغْبَةُ إلى الله تعالى، وهو من قولنا: دَعا يدعو دُعاءً ودَعْوَى

• وهو ما يُدْعَى به الله من القول، والجمع: أدعية

• وهو صوت المنادي،

• وهو أن يطلب الإنسان من الله سبحانه ما ينفعه ويكشف عنه ما يضره

وحقيقة الدعاء إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية وأساسها وروحها، واستشعار الذلة البشرية وضعفها، وفيه معن الثناء على الله، وإضافة الإحسان والجود والكرم إليه سبحانه.

والدعاء شأنه عظيم ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين فما استجلبت النعم بمثله، وما استدفعت النقم بمثله، ذلك لأنه يضمن توحيد الله سبحانه، وإفراده بالعبادة دون سواه، وهذا رأس الأمر وأصل الدين.

وشهر رمضان فرصة سانحة ومناسبة كريمة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات وعلى رأسها الدعاء، وذلك أنّ مواطن الدعاء ومظان الإجابة تكثر في هذا الشهر المبارك، فلا غرو أن يكثر المسلمون فيه من الدعاء

ولعل هذا السر في توسط آيات الصيام بالحث على الدعاء وبيان قرب المولى من عباده، وسرعة استجابته لدعائهم حيث يقول سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

وكلما عظمت معرفة العبد بربه، وقويت صلته به، كان دعاؤه إياه أعظم وانكساره بين يديه أشدّ، وهذا ما نجده من حال الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، والصالحين من عباد الله ولا يخفى ما في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من المواقف الكثيرة التي كان عليه الصلاة والسلام يكثر فيها الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه،

ففي رجوعه من الطائف يعلن انكساره لربه ويشكو له ضعف قوته وقلة حيلته، معلناً عبوديته التامة له: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أم الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ على سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).

وفي غزوة بدر يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل وهو في العريش يدعو الله حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكذلك في غزوة الخندق، وفي سائر الغزوات والمواقف.

ولهذا عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عبادة، بل من أفضل العبادات وأكرمه على الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل العبادة الدعاء)، وقرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيئ على الله أكرم من الدعاء)

والله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع دعاء عباده ووقوفهم على بابه مع غناه عنهم، وهو سبحانه يدلهم على الطريق، ويأمرهم أن يدعوه ليكرمهم ويحسن إليهم، ويجيب دعاءهم، لأنه سبحانه لا يخيب عبداً دعاه،ولا يردّ مؤمناً ناجاه، ففي الحديث القدسي: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون في الليل والنهار،وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كلّ واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).

ومن فضل الله على عباده أن حثهم على الدعاء ووعدهم بالإجابة، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، وفي الحديث الشريف عن سلمان الفارسي رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إنّ الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من مسلم يدعو بدعوة، ليس فيها إثم أو قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمّا أن يعجل له دعوته، وإمّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمّا أن يصرف من السوء مثلها، قالوا يا رسول الله إذاً نكثر، قال: الله أكثر).

وللدعاء شروط آداب إذا تحققت تكون سبباً لإجابته، منها:

1. التوبة والبعد عن المعاصي، والاكثار من الأعمال الصالحة، فمما لا شكّ فيه أنّ اقتراف الذنوب، وترك الواجبات، سبب مهم لحجب الإجابة عن العبد، جاء في بعض الآثار: (لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي).

2. إطالة السفر فيما أحلّ الله، فالسفر من دواعي إجابة الدعاء، لأن المسافر أكثر انكساراً لله تعالى، بطول غربته وبعده عن أهله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ في هنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده).

3. مدّ اليدين إلى السماء بانكسار وتضرع فقد ورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (إنّ الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).

4. الإلحاح في الدعاء والتضرع إلى الله بذلة وانكسار، والاكثار من مناجاته بلفظ الربوبية، يا ربّ، يا ربّ، وهذا من أعظم ما يطلب به استجابة الدعاء، فقد ورد عن عطاء، أنه قال: (ما قال العبد: يا ربّ يا ربّ ثلاث مرات إلا نظر الله إليه فذكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرؤون القرآن ثمّ تلى قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾.

5. تحري الحلال في المطعم والمشرب والملبس، وقد كان سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مستجاب الدعوة، ولما سئل عن السبب قال: (ما رفعت إلى فمي لقمة، إلا وأنا أعلم من أين مجيئها، ومن أين خرجت)، وقال وهب بن منبه: من سره أن يستجيب الله دعوته، فليطب طعمته).

6. التماس الأحوال والأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، ومنها:

1. عندما يكون المسلم في الصلاة، وفي السجود خاصة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم / قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)، وفي آخر الصلاة بعد الصلوات الإبراهيمية، وقبل السلام فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثمّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(سل تعطه، سل تعطه).

2. عندما يكون المسلم محرماً بالحج أو بالعمرة فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)، وأفضل ما يكون الدعاء يوم عرفة، فهو يوم إجابة ورحمة من الله، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كلّ شيئ قدير)، كما يستحب الدعاء، ويستجاب في كل منسك من مناسك الحج، والأحاديث في ذلك كثيرة.

3. عندما يكون المسلم صائماً، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث دعوت لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر).

ومن الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء

1. وقت السحر، وحين يبقى ثلث الليل الأخير، قال الله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).

2. يوم الجمعة، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: (فيه ساعة لا لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسال الله شيئاً إلا أعطاه إياه)، (وللعلماء أقوال متعددة في هذه الساعة، منهم من قال: إنها عند صعود الإمام وخطبته، ومنهم من قال: إنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، ورجح الحافظ ابن حجر كلا القولين).

3. بين الأذان والإقامة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الدعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة فادعوا).

4.بعد الصلوات المكتوبة، فعن أبي امامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟... قال: (جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة)، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ ابن جبل (فعن مُعَاذٍ، أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ، أَخَذَ بِيَدِهِ وَقالَ: يَا مُعَاذُ واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعاذُ لاَ تَدَعنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وحُسنِ عِبَادتِك).

5.في شهر رمضان، وفي العشر الأواخر منه وفي ليلة القدر خاصة فقد ثبت في الحديث عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت ليلة القدر، ما أقول؟ قال: (قولي: اللهمّ إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني).

فشهر رمضان من الأزمنة التي خصها الله باستجابة الدعاء، إذ هو موسم للقرب من الرحمن، والخضوع له، والتذلل بين يديه بالدعاء، وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى، قد فتح للمؤمن في هذا الشهر أبواب الخير فاغتنمها، وتخلى عن المعاصي والرذائل، وتحلى بالطاعات والفضائل، وأعلن العبودية الخالصة لله تعالى، واخلص العمل له، وذلك بما أعانه الله عليه من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الرحمة والاستجابة، ولهذا كانت دعوة الصائم لا ترد فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (إنّ للصائم عند فطره لدعوة لا تردّ، فكان عبد الله يدعو عند فطره: اللهم أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، أن تغفر لي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الربّ: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين).

فالدعاء ينمي في المسلم شعوره بالعبودية لله عزّ وجلّ، ورمضان موسم الدعاء، وشهر الإجابة، فليحسن المؤمن استغلاله بالتضرع والانكسار، وكثرة الدعاء لله، وقد هيئت له الأسباب، وفتحت له أبواب الإجابة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين