رمضان شهر الجهاد

 

رمضان المبارك شهر الجهاد فهذا الشهر الفضيل الذى أكرمنا الله به لم تكن أيامه ولياله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام للنوم والكسل والتبطل والراحة وترك العمل وإنما كانت أيامه ولياليه عملا وجهادا وسعيا للدنيا والآخرة   

ومعظم الغزوات والمعارك والفتوحات الإسلامية التي كانت في صدر الإسلام وحياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين من بعده والعصور الذهبية للمسلمين بعد ذلك وانتصر المسلمون بفضل الله في جلها إنما كانت في هذا الشهر الكريم 

ففي رمضان من السنة الثانية للهجرة وفي اليوم السابع عشر على وجه التحديد ووافق  يوم جمعة وكان أول رمضان يفرض فيه الصيام على المسلمين حدث أول لقاء مسلح وأول معركة كبرى  للمسلمين ضد أعداء الله في يوم الفرقان يوم بدر وتم أول انتصار بفضل الله تعالى لجند الله أهل الحق العارفين بربهم  على جند الشيطان أهل الباطل العابدين للأوثان قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين بنصره وتأييده : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون )

وفي رمضان من السنة الثالثة للهجرة عبئ النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً لصد عدوان المشركين الذين كانوا يستعدون للهجوم والثأر لقتلاهم في بدر وقد أتوا بالفعل ووصلوا الى مشارف المدينة وكانت موقعة أحد بعد ذلك  في شوال بعد انتهاء رمضان  وفي رمضان من السنة الخامسة للهجرة كان استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لغزوة الخندق وفي رمضان من السنة السابعة للهجرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم بسرية قادها غالب بن عبد الله لقتال بني عبدالله بن ثعلبة وكانوا قد أعلنوا عداءهم للمسلمين فانتصر غالب عليهم وغنم كثيرا من الخيرات ساقها إلى المدينة وفي رمضان من السنة الثامنة للهجرة تم فتح مكة ودخلها المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاراً جهاراً بعد أن أخرجوا منها ليلاً وسراً وحطم الرسول صلى الله عليه وسلم الأصنام بيده الشريفة وهو يقول : [وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] {الإسراء:81} وبهذا الفتح المبين تم نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجا واندحر الشرك وتبدد ظلامه .

وفي رمضان من السنة التاسعة للهجرة كانت عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك المظفرة ثم تتوالى الانتصارات والغزوات بعد ذلك وكثير منها يحدث أيضا في هذا الشهر الفضيل ففي الأول من رمضان عام عشرين للهجرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل الفتح الإسلامي إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه الذى حاصر حصن بابليون بعد أن اكتسح جند الروم في طريقه وفي الرابع والعشرين من رمضان بنى أول مسجد في أفريقيا مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط في مصر .

وفي منتصف رمضان سنة 138 للهجرة يؤسس عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش دولة إسلامية قوية في الأندلس.

وفي السادس من رمضان سنة 223للهجرة جهز الخليفة العباسي المعتصم جيشا لحرب الروم استجابة للصرخة الشهيرة لإحدى النساء المسلمات (وامعتصماه) حيث حاصر عمورية إلى أن سقطت بأيدي المسلمين وكانت .

معركة عين جالوت في الخامس والعشرين من رمضان عام 658للهجرة حينما خرج سلطان مصر سيف الدين قطز  لملاقاة المغول في عين جالوت وانتصر المسلمون انتصارا ساحقا وأدت المعركة لإنحسار نفوذ المغول في بلاد الشام وخروجهم نهائيا وإيقاف المد المغولي وفي الرابع من رمضان سنة 666 للهجرة نجح المسلمون بقيادة الظاهر بيبرس في استرداد  مدينة أنطاكية من الصليبين بعد أن ظلت أسيرة في أيديهم لمدة سبعين عاما وفي السادس من رمضان سنة 92للهجرة انتصر محمد بن القاسم وكان شابا صغيرا في السابعة عشرة من عمره على جيوش الهند عند نهر السند  وتم فتح بلاد السند وذكر لنا إمامنا القرضاوي حفظه الله ضمن مشاهداته في بلاد الهند  والسند وهو يركب القطار شاهد محطة  بالقرب من كراتشي تسمى (محطة محمد بن القاسم) ذلك الشاب الطموح الذى قال فيه الشاعر : 

إن السماحة والمروءة والندى  لمحمد بن القاسم بن محمد  

قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ياقرب ذلك سؤددامن مولد  

و في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة479 للهجرة كانت موقعة الزلاقة وهو سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية وانتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألفا وكان بقيادة الفونس السادس ملك قشتالة  وأيضا  معركة رودس وهى جزيرة كانت تابعة لمملكة المجر وكان الصليبيون يقطعون طريق البحر على الحجيج من خلالها فاستشاط غضبا حينئذ  الخليفة العثماني سليمان القانوني حفيد محمد الفاتح وجهز جيشا كبيرا بقيادة مصطفي باشا فزلزل اركانهم وحقق نصرا مشرفا في رمضان  سنة 989 للهجرة ولا يفوتنا أن نذكر الحرب على الكيان  الصهيوني والتي قام بها الجيشان المصري والسوري وبمؤازرة من بعض الجيوش العربية والإسلامية  في العاشر من رمضان عام 1393للهجرة وتحقق بفضل الله تعالى ثم بفضل الروح الإسلامية التي غرسها في الجنود  وقتها بعض علماء الأزهر المخلصين وعلى رأسهم الإمام  الداعية محمد الغزالي رحمه الله تحقق نصر  جزئي محدود ضيع ثمرته  العملاء والخونة بعد ذلك  

هذا كله يدل على أن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل وأن حركة الجهاد لا تتعطل في رمضان فضلاً عن  غيرها من أعمال الحياة وهذا الشهر الفضيل شهر جهاد النفس حيث يجعل المسلم لنفسه خطاما وزماما يقودها به إلى طاعة الله ويزمها عن معصيته ويتشبه فيه المسلم بالملائكة الذين [لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {التَّحريم:6} والذين [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ] {الأنبياء:20} فتقوى فيه معانى الإيمان ويستعصى على وساوس الشيطان وهذا كله من أعظم وسائل النصر على أعداء الله في ساحة الوغى وينبغي أن نحرص على أسباب القوة وأعظم معانى القوة قوة الإيمان ثم بعد ذلك القوة المادية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] {الأنفال:60} وينبغي أن نتأسى بسلفنا الصالح في جهادهم و ندرس غزواتهم وخاصة في رمضان وغيره دراسة واعية مستفيضة لنستخلص منها أسباب النصر  ونتعلم منها العبر والدروس ونتعرف من خلالها على سنن التمكين في الأرض حتى نكون مستعدين للبذل والتضحية والشهادة في سبيل الله 

ولابد ان يتواكب مع هذا مراعاة السنن الكونية والسنن الشرعية وفهم أمر الجهاد فهما شرعيا صحيحا ومعرفة الواقع معرفة جيدة دون تهويل أو تهوين ومراعاة الفرق بين الوضع قبل التمكين والوضع بعده وبين حالة الضعف وعدم القدرة  وحالة القوة والإستطاعة ولا داعى للعجلة والتهور والاندفاع فعندما أتى الصحابي الجليل خباب بن الأرت يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم النصرة والدعاء قائلا: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا فهدأه النبي صلى الله عليه وسلم وبين له السنن وقواه وصبره وذكره أنه لا تمكين قبل الإبتلاء وقال له :(يا خباب لقد كان من  قبلكم يؤتى بالرجل ويوضع في حفرة وينشر بالمنشار فيجعل نصفين  ويمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ولكنكم تستعجلون ) ولا حجر على سعة فضل الله ورحمته فكم من بلد فتحت بالدعوة  والقرآن كالمدينة المنورة وكم من بلد فتحت بالسيف والسنان .

والله تبارك وتعالى تعبدنا بالأسباب ولم يتعبدنا بالنتائج  ثم إن أمر التمكين ما هو إلا محض فضل الله وتوفيقه سبحانه وتعالى [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} وقال أيضا  [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41}  وقد مر الجهاد بمراحل متعددة فكان الكف و الإعراض والصبر على الأذى ثم الإذن بإباحة القتال ثم فرضه على المسلمين لمن يقاتلهم ويعتدى عليهم  والواجب قد يسقط بالعذر والعجز  وعدم الإستطاعة [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286} فعلينا أن نقدر ظروف الوقت والواقع حتى لانبنى قصورا من الرمال ونفسد من حيث نريد الإصلاح ونضر حيث نبغى النفع  فالحق والصواب إذا كانت الدعوة مستطاعة ومقدورة فليس لنا أن نتخلف عنها والكلمة قد تكون أحيانا أوقع من ضربات السيف  والخير والتمكين والنصر والأمر كله بيد الله عز وجل يؤتيه من يشاء وقت ما يريد سبحانه.

فاللهم ربنا نسألك نصرك المؤزر لعبادك المؤمنين ونسألك تحقيق وعدك لمن نصر الدين فإنك لا تخلف الميعاد اللهم مكن لدينك في الأرض وافتح له قلوب الناس وائذن لشريعتك أن تحكم وأن تسود وانصر عبادك المستضعفين وانتقم من الظالمين أرنا فيهم عجائب قدرتك واجعلهم للناس عبرة إنك نعم المولى ونعم النصير .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين