رفع العلم بقبض العلماء

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله لا يَقبض العلمَ انتزاعاً يَنتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتخذ الناسُ رؤوساً جُهَّالاً فسُئِلوا فأفْتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضلوا).

المعنى:

ظاهرُ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ قبض العلم يكون شيئاً بعد شيء ولا يكون مرَّة واحدة، والكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: أنَّ المراد بقبض العلم ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنه يموت حَمَلَتُه ويتخذ الناس جُهَّالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون.

الثاني: أنَّ فيه التحذير من اتخاذ الجهال رؤساء.

الثالث: الحثُّ على حفظ العلم وأخذه عن أهله.

الرابع: لقائل أن يقول: ظاهر هذا الحديث مُعارض لما روي عنه عليه السلام في الكتاب العزيز أنَّه يُرفع جملةً واحدة: 

عن عبد العزيز بن رفيع، قال: سمعت شداد بن معقل، صاحب هذه الدار، يقول: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يقول: «إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما يبقى الصلاة، وأن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع»، قالوا: وكيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: «يسرى عليه ليلة فيذهب ما في قلوبكم وما في مصاحفكم» ، ثم قرأ: [وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا] {الإسراء:86}. [أخرجه الحاكم في مستدركه، وصحَّحه الذهبي، قال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة].

والجواب: أنَّه لا تعارض بينهما؛ فإنَّ العلم نور يضعه الله تعالى في القلوب فيقع بذلك النور الفهم في كتاب الله وفي سنَّة نبيه عليه السلام، وقد نطق الكتاب والحديث بهذا المعنى، فأمَّا الكتاب فقوله عزَّ وجل: [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] {النساء:83}، ولا تُفهم مَعَاني القرآن وأحكامه إلا بالنُّور.

وأما الحديث فقوله عليه السلام: (أنتم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه) إلى آخر الكلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده) [1]. فقد جعل عليه السلام أولئك يَفهمون وهؤلاء لا يفهمون، مع أنَّ هؤلاء أكثر حفظاً وأكثر ضبطاً للحروف، وأتى بذلك في مَعْرِض الذمِّ لهؤلاء لكونهم لا يفهمون الأحكام فلم يبقَ إلا أن يكون النور الذي كان عند أولئك عدمه هؤلاء فرجع المساكين مثل بعض من تَقَدَّم من الأمم الماضية نقلة وحملة، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد وصفهم بذلك في كتابه، حيث قال: [ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا] {الجمعة:5}. وها هو اليوم قد كثر هذا الأمر وتفاحش لأنَّ النقلة والأسفار قد كثرت، والقليل النادر من تجد عنده طرفاً من العلم الذي هو النور.

الخامس: إذا قُبِضَ العالِم ثم أقيم آخرُ مقامه هل يكون مثله فيجبر تلك الخَلَّة التي وقعت في الإسلام أم لا؟

ظاهر الحديث يفيد أن لا، ويُعارضه قوله عليه السلام: (إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا عالم آخر) [قال السخاوي في المقاصد الحسنة: الزبير بن بكار في الموقفيات، عن محمد بن سلام الجمحي عن علي بن أبي طالب من قوله. وهو مُعْضَل، وله شواهد]. فظاهر هذا مُعارض لما نحن بسبيله، وليس بينهما تعارض في الحقيقة؛ لأنَّ العلم كان أولاً في صدور الرجال ثم انتقل إلى الأوراق والكتب، وبقيت مَفَاتحه في صدور الرجال، ثم الآن كثرت الكتب والأسفار وقَلَّت المفاتيح، وإن وُجِدَ مفتاح فقلَّما يكون مُستقيماً إلا النادر القليل، وذلك لغلبة المدنيَّة الحديثة والحضارة الأجنبيَّة فشوَّشت على الأذهان وبلبلت العقول بما أدخلته من وَهْنٍ على العقائد، وما نشرته من مبادئ ليتم للمستعمرين التمكين من الأمم المستعمرة والشعوب المستعبدة،، فإنَّه بقدر بُعد الشعوب عن قديمها المُشْرق، ودينها الراسخ يكون الضعف في أخلاقها والوهن في قوتها، وكلما كثرت البدع والمنكرات وشاعت الفتاوى المغرضة من العلماء كثر الضَّلال وشاع الانحراف.

السادس: قوله عليه السلام: (حتى إذا لم يبقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

فيه دليل على أنَّ الضلال المخوف لا يقع مهما بقي من الطائفة المذكورة واحد، لأنَّ تلك الطائفة هم الذين تمسَّكوا بالعلم وعملوا به، لأنَّه مهما بقي عالم واحد على الحق لم تضر الضلالة وإن ظهرت لعدم الاجتماع عليها، وقد قال عليه السلام: (لن تجتمع أمتي على ضلالة) [قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني في "الكبير، وابن أبي خيثمة في تاريخه. وقال أيضا: وبالجملة فالحديث مشهور المتن، وله أسانيد كثيرة، وشواهد عديدة في المرفوع وغيره]. 

ويوضح ذلك ما رُوي أنَّ أحد بني إسرائيل مرَّ على قرية وقد أهلكها الله، فقال: يا ربِّ كيف أهلكتهم وكنت أعرف فيهم رجلاً صالحاً؟ فأوحى الله إليه: (أنَّه لم يَغِرْ لي قط يوماً واحداً). فأفاد ذلك أنَّ مُوافقته لهم على الباطل وإن كان يَعرف الحق كانت سبب هلاكهم، ولو خالفهم ما هلك ولا هلكوا.

السابع: في الحديث دليل على أنَّ حقيقة الرياسة لا تكون إلا بالعلم إذا كان على حقيقته، وهو أن يكون لله خالصاً مُرتبطاً بالكتاب والسنة، وأنَّ رياسة غير العالم ليست بحقيقة لأنه عليه السلام نصَّ على أنَّ العالم ما دام بين أظهر الناس دام به الخير، وأنَّ الجاهل إذا كان مكانَه وقع به الضلال والهلاك، والسرُّ في ذلك هو أنَّ كل الناس يحتاجون إلى العالم ليرشدهم لطريق ربهم، ويبيِّن لهم أمرَه ونهيه، إذ في ذلك فقط نجاتهم وسعادتهم، قال عليه السلام: (أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج إليه نفع وإن استغنى عنه أغنى نفسه) [قال الحافظ العراقي: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان موقوفاً على أبي الدرداء بإسناد ضعيف ولم أره مرفوعاً]. وقد بدأ الآن في هذا العصر ظهور ما أخبر به الصادق عليه السلام فقد رأسوا بغير علم فاستفتوا فأفتَوا بغير علم، فضلوا وضلَّ من اتبعهم، فعمَّ البلاء وشاعت البلوى، واتسع الخرق وحار الناصح.

الثامن: أن هذا الحديث يلتقي في المعنى مع قوله تعالى: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا] {الرعد:41}. روي عن عطاء بن رباح في تفسير هذه الآية قال: (ذهاب فقهائها وخيار أهلها). 

روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: لأحدِّثنكم بحديث لا يحدثكم به أحد بعدي: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ من أشراط الساعة أن يقلَّ العلم، ويظهرَ الجهل، ويظهر الزنا، ويكثر النساء، ويقلَّ الرجال حتى يكون لخمسين امرأة الواحد). وقال ابن عباس لما مات زيد بن ثابت: (من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه).

التاسع: فيه دليل على أنَّ العاميَّ وظيفته السؤال والامتثال دون بحث؛ لأنَّه عليه السلام لم يجعل لهم في الحديث وظيفة إلا السؤال وامتثال ما أُشير عليهم في ذلك السؤال، وإنما ضلوا إذ أنهم لم يُصادفوا الرأس الحقيقي.

العاشر: فيه دليل على أنَّ الجاهل لا يُعذر بجهله عند وقوعه في المحذور، لأنَّه عليه السلام قد جعل العوام الذين لم يُصيبوا بفتياهم أهلها ضَالِّين مثل الذين أفتوهم بها مع أنَّهم المساكين جاهلون بالأمر، ليس لهم معرفة بما يُميزون الفتيا الصحيحة من السقيمة.

فارجع أيها الهائم في طريق الضلال إلى طريق الرشاد قبل سبق الحرمان بغلق الباب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الخامس، السنة الثانية عشر، 1378هـ -1958م).

 

******* 

[1] أخرجه مالك في موطأه، موقوفاً من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال لِإِنْسَانٍ: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٍ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ. قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ. كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي. يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاَةَ، وَيَقْصُرُونَ الْخُطَبَةَ. يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي. يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيَقْصُرُونَ الصَّلاَةَ. يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين