رعب عدسة الكاميرا

 
 
 
عبد العظيم عرنوس
 
 
[من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا]
 
لم يشأ محمد المسالمة الحوراني أن يكون رقما مجهولا في الثورة السورية، بل أراد أن يكون نجما بملامح مضيئة تجسد قيم الشجاعة والنزاهة والصدق والتضحية وتجلية الحقيقة والجرائم البشعة التي تقترفها عصابة البغي والظلم ، فحمل كمرته مع روحه لأنه يشعر بأنها تجلية معاناة الشعب السوري أمام سمع العالم وبصره، كان لديه خيار أن يترك الكاميرا ويغادر آمنا عند أهله أو ينشط مع السياسيين في الخارج، لكنه اختار الصعب، وكان يدعو دائما أن يكون عمله لله وأن يتقبله منه .
 
لم يكن محمد مضطرا إلى ما أقدم عليه بل مختارا. فهو ابن 33 عاما، ولديه مصلحة تجارية ناجحة فقد احترف عمل الألمنيوم والزجاج، وكان من أنجح العاملين في مجاله بدرعا. لكن في شخصية محمد ثائر حقيقي، فعندما فتح النظام السوري باب التطوع للذهاب إلى العراق وسمح بعبور المجاهدين إليه، كان محمد واحدا منهم. عاد محمد من العراق بعد أن قاتل الأميركيين في معركة غير متكافئة وشاهد الهزيمة بعينه.
 
وبدلاً من أن يستقبله النظام المعادي لأميركا ظاهريا استقبال الأبطال - وهو الذي سمح له بالخروج من الحدود الرسمية التي ظلت مغلقة عقودا- استقبل في أسوأ فروع الأمن المخابرات الجوية، وظل يستدعيه باستمرار عارضا عليه التعاون رغبا ورهبا دون جدوى.
 
ومنذ بداية الثورة السورية عمد النظام إلى التعتيم الرهيب على جرائمة القذرة ومنع كل وسائل الإعلام من تغطية الحقيقة المرة الأليمة، وأطلق الاتهامات السخيفة حول الفبركة واختراع الأخبار، فكان يعتمل في نفسه كيف يوثق الجرائم في ظل نظام يقتل من يحمل كاميرا؟ هل يترك الخبر بدون تغطية لأن النظام بهذه الوحشية؟ أم هل يرضى لنفسه أن تغيب جرائم النظام السوري كما غيبت في الثمانينيات بدون أي صورة توثقها؟
 
فاختار المسالمة لنفسه أن يغطي أحداث الثورة بحرفية وشجاعة، أراد أن يرفع الظلم الإعلامي الذي يلخص الثورة في المؤامرة. وتمكن في فترة قصيرة من عبور المسافة الفاصلة بين الثائر صاحب القضية والصحفي المهني.
 
بدا ناشطا على الإنترنت، وترك مصلحته وعمله في تصنيع الألمنيوم والزجاج ليصور ويوثق ويبث، بدأ مع شبكة شام وانتهى في الجزيرة، وظل منفتحا على كل وسائل الإعلام لنقل الثورة السورية وتضحيات الشعب السوري.
 
يقول صديقه عمر الحوراني: إن محمداً "مثال للإنسان السوري المكافح قبل الثورة والثائر بكل ما يستطيع بعد الثورة ، وعرف بين أصدقائه بعقليته الثورية فهو مثال للثائر الذي ترك كل شيء لأجل الثورة، ولم يكن ثائرا بالتظاهر فقط، بل كان أحد أبرز من عملوا بالإغاثة الطبية والإنسانية، وكان يعتبر نفسه مسؤولا عن أي شخص بحاجة لأي نوع من المساعدة بجانب عمله كأبرز ناشط إعلامي في محافظة درعا"
 
دفع محمد كلفة غالية قبل أن يرحل، فقد تشرد أهله، واستشهدت شقيقته، وعانى كثيرا من الضغوط العائلية التي تطالبه بأن يعيش مع زوجته بعد أن قدم الكثير، لكنه اختار أن يبقى في سوريا، وكان يقول: إذا غادرت أنا.. فمن يبقى؟
 
استشهد المسالمة واقفاً مقبلاً غير مدبر في بصر الحرير بمحافظة درعا جنوبي سوريا نتيجة إصابته برصاص قنّاص من الجيش النظامي أثناء قيامه بمهمة تغطية صحفية لصالح قناة الجزيرة، ليتحول إلى خبر ضمن الأخبار الواردة من سوريا بعد أن ظل لأكثر من عام ناقلا للأخبار.
 
مَضى طاهِرَ الأَثوابِ لَم تَبقَ رَوضَةٌ ... غَداةَ ثَوى إِلا اشتَهَت أَنَّها قَبرُ
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني ... رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين