رسائل قرآنية في إصلاح العقل (13)

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18).

هذه الآية قانون في مسؤولية الكلمة والرقابة على ما يخرج من الإنسان عن طريق لسانه. فإذا كان قول الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} يعالج ما يدخل إلى الإنسان ويهذّبه وينقّيه، فإنّ هذه الآية تعالج ما يصدر عن الإنسان عبر لسانه، وتُعظّم من مسؤوليّته على الكلام الذي يعبّر به عن مكنونه.

إنّها تحثّه على أن يزن كلامه دائمًا بميزان الحقّ والصدق والعدل؛ فلا يزيّن الباطل ويعاند الحقّ، ولا يزيّف الوقائع ويحكي الكذب، ولا يظلم أحدًا بكلمة أو بشطر كلمة. فكل ذلك مسجّل عليه حرفًا حرفًا، يحفظه ملكان كريمان حاضران عند كل لفظ، ولا شيء يذهب هباء بغير حساب. وحين يُطالع هذا المشهدُ تاليَ القرآن يُدرك خطورة الكلمة فيعقِلها قبل النطق بها، ويفهم أنّه إنسان كريم مكلَّف، وأنّ الكلمات التي تخرج مِن فيه ينبغي أن تكون محمّلة بالحقّ والصدق والعدل.

فإذا غضبَ يستغفر الله ويتريّث لينطفئ غضب نفسه. وإذا حزنَ لا يوقد نار حزنه ويبوح به ملتاعًا فيفقد اتّزانه ويبثّ اليأس والشؤم في الآفاق. وإذا مازحَ لا يتجاوز اللائق من الكلام ولا يخدش حياء الناس بكلام فجّ غليظ. وإذا سأل يسأل بأدب، وإذا أجاب فعن علم. وإذا طُلبتْ شهادته يجتنب الزور ويشهد بعلم وعدل. وإذا كتب قصد إلى النافع في الدنيا والآخرة. وإذا غنّى ليروّح عن نفسه تجنّب القبحَ والغواية ونفثاتِ الهوى. وإذا نقلَ العلم تحرّى دقّته وتمكّن منه وأقامه في قلبه قبل أن يلفظه للناس.

هكذا حال المؤمن العاقل، يراقب لسانه في كل حال، ولا يقول كل ما يشتهيه، ولا يكون ثرثارًا يُخبر بكل ما يعلم وما لا يعلم، ولا يُزعج الناس بالتافه من الكلام، بل يتحدّث حين ينبغي له أن يتحدّث. وحين ينتشر هذا الميزان في مجتمع تنمو عقول أبنائه وترقى علاقاتهم ويتجنّبون أطنانًا من غثاء الكلام الذي يذهب قبض الرياح.

إنّ عالمنا المزدحم بالكلام في توافه الأمور وبجهل وعماية وضلال لهو أحرى أن يهرع إلى هذا الميزان الإلهي الذي يقرّر مسؤولية الكلمة وخطورتها، لينقذه من طوفان الكلمة الذي يهدّد عالم الأفكار ويشوّش على عقول الأجيال الصغيرة الغضّة، تلك القلوب الطريّة البريئة التي تحتمل اليوم من رديء الكلام ما يزاحم الجيّد النافع منه، فتخرج لنا الشخصيات المشوّهة التي تنفجر بالمزيد من الرداءة العلنية والثرثرة بلا فائدة. وتظلّ هذه الدوامة تهوي بالمجتمع من الرديّ إلى الأردى، حتى تقوم فيه وبقواه الذاتية مسؤولية الكلمة، فيفرض عقلاؤه ميزانَ النقد الذي يُذكّر بخطورة الكلمة، فيُحجم التافهون عن الثرثرة في مجتمع له ميزان حيّ ورقابة نابضة، وترقى كلمات الناس، وترقى معها الحوارات والآداب والخطب وسيناريوهات الأفلام والمسلسلات وكلمات الأغاني والأناشيد، فيعقل الإنسان لسانه عن الانفلات بلا رقيب، ويعقل المجتمع ألسنة أفراده عن مهاوي الضلال.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين