رسائل دامية

د. محمود نديم نحاس

هذه مجموعة رسائل وصلت من الداخل السوري عبر (الواتس أب) جمعتها في رسالة واحدة وأنقلها باختصار بالفصحى، فقد كانت مزيجاً من الفصحى والعامية. الرسالة الأولى التي جمعت معها باقي الرسائل وصلت يوم السبت 8 أيلول (سبتمبر) من فتاة في مدينة حلب إلى بنت عمها التي تعيش في الغربة، تقول فيها :
اكتب هذه الرسالة يوم الأحد ٢ أيلول (سبتمبر) مع إن الاتصالات مقطوعة، إنما أكتبها لعل وعسى أن تصلك يوما من الأيام فتتذكريني.
سوريا تنزف دما والعالم يتفرج... كل إنسان لا تعجبه النعم التي هو فيها فليأتِ إلى سوريا كي يحس بقيمة النعم بشكل أكيد... سوف يشعر بقيمة الكهرباء والماء والغاز والبنزين والمازوت والأمن والأمان... حتى الاتصالات التي دخلت علينا من قريب، وصرنا لا نستطيع العيش في غيابها، مقطوعة... لقد فقدنا كل شيء تقريبا. حتى جهاز الجوال صار قطعة غير مفيدة... لا شبكة خلوية ولا شبكة إنترنت ولا كهرباء لشحنه.
الكهرباء تأتي ولكن يمكن أن تنقطع في أي لحظة. وإذا انقطعت فوداعا للتكييف والمراوح، ليس هذا فقط بل انقطاع تام عن العالم الخارجي، فالتلفاز، رغم القنوات المشوشة، هو وسيلتنا لمعرفة ما يجري حولنا، لكنه يحتاج للكهرباء ليعمل. وإذا انقطعت الكهرباء لأيام طويلة فوداعا للأطعمة التي في الثلاجة والفريزر. ورغم الانقطاع فلا ندري كم ستكون فاتورة الكهرباء. ولا ندري كيف سيأتي الشتاء بلا كهرباء ولا ماء! فكيف سندفئ البيت، وكيف سنشرب، وكيف سنطبخ، وكيف سنغتسل.
أتساءل دوماً: هل المياه التي نشربها صالحة للشرب؟ وبعد أن نشربها مَن سيسعف مَن؟ إذ لا يوجد إسعاف ولا مستشفيات! فالأطباء بعضهم نزحوا، وبعضهم قُتلوا، ومن بقي منهم فكثيرون عياداتهم في الأحياء التي أصبحت يسكنها الأشباح فقط! وإذا وجدنا الطبيب فمن أين سنحصل على الدواء؟ وإذا استطعنا أن نشتري نوعاً من الأدوية فقد نفتقد غيره...
كلما أودع أحداً من الأهل والأحباب أقول: تُرى هل سنلتقي مرة أخرى؟ فأبسط شيء أن تضطر أسرة للنزوح والابتعاد، فلا نراهم بعدها. صرنا نشعر بمعنى "صلِّ صلاة مودع" ومعنى "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".
كل يوم أكون شاردة الذهن، ولا أعرف ماذا أعمل، وأشعر أني في حالة تأهب، كأنني أنتظر شيئاً، لكن لا أعرف ما هو. جهزت حقيبة وضعت فيها بعض حاجاتنا الأساسية، وكنت محتارة ماذا أضع: ألبسة صيفية أم خريفية أم شتوية! تُرى أين سنذهب؟ شعور صعب! أن تجهزي حقيبة وأنتِ لا تعرفين وجهتك. وأصلا ما بقي في سوريا منطقة نقول عنها إنها منطقة أمان لننزح إليها.
كل يوم أفكر: تُرى ماذا يخبئ لنا الغد؟ يوماً أكون متفائلة وعشرة أيام لا. فمن رمضان الماضي كانوا يقولون اقترب الحل. لم نشعر ببهجة رمضان ولا العيد. لكن بالرغم من كل المآسي والأحزان والآلام كانت فرحتي وسعادتي أننا عيَّدنا مع بقية العالم الإسلامي! مع إن لسان حالي يقول (بأية حال جئت يا عيد؟)، وذلك لأننا تفرقنا في أول رمضان، حيث صام بعض الناس مع العالم الإسلامي، وصام آخرون وفقاً للإعلان الرسمي. ونسأل الله أن يتقبل.
تُرى هل العالم الإسلامي يشعر بنا؟ إني أناشد كل مسلم، وخصوصا كل سوري مغترب، أن يجتهد بالدعاء لبلده الغالي سوريا، ليس كي يرجع إلى بلده، بل ليوقف حمام الدم. فهذا أهم شي حالياً في سوريا.
كل أسرة عندها قصة بل قصص مختلفة عن غيرها. وصدق مَن قال: (مالنا غيرك يا الله). كلما سمعت بشهيد، أو بيت مهدوم فوق رؤوس أهله، أو أسرة نازحة، أو شخص مجروح، أقول: قد أُصاب يوماً بمثل مصيبتهم.
معظم مَن استُشهد من أقاربنا كان على أيدي القناصة. يخرج أحدهم يبحث عن قوت عياله، فلا يعود، بل يأتي خبر وفاته! ومنذ أيام استشهد أحدهم على يد قناص من الحرس الثوري الإيراني، وقد قُبض على القناص، وأُتي به إلى أهل الشهيد ليقتصوا منه، لكنهم سألوا أحد المشايخ فلم يعطهم فتوى، لأن القصاص من حق الحاكم، فأخذه الجيش الحر. أما الذين اختفوا عن الأنظار، فبعضهم جاء خبر اعتقالهم، وبعضهم التحق بالثوار. وفي كلتا الحالتين لا يعودون، وإن عادوا ففي توابيت.
حتى المقابر لم تسلم من القصف. رحمك الله يا جدي! فقد قصفوا المقبرة التي دُفنت فيها. وليس لدينا الجرأة لنذهب إليها ونجمع رفاتك التي ربما تناثرت في كل مكان. وأسأل الله أن يجمعنا بك في الفردوس.
أبي يخرج كل يوم مخاطراً بنفسه كي يؤمِّن لنا لقمة العيش. لاسيما والأسعار مرتفعة، فهذا وقت الاستغلال، لكن من ناحية أخرى فالذين يخاطرون بحياتهم ليفتحوا محلاتهم لابد أن يعوضوا عن خسارتهم بزيادة الأسعار. هذا إن وُجدت البضائع. فحليب الأطفال مثلاً مفقود، في وقت جفَّت فيه أَثْدي النساء من الأهوال.
حلّ وقت افتتاح المدارس، لكن المدارس مهدّمة في نصف الأحياء. وفي الأحياء الأخرى صارت مقراً للنازحين. وحتى لو أفرغوها من النازحين، فلا أحد سيرسل أولاده وفلذات أكباده إلى المدرسة ليموتوا جماعياً. إذ يخشى الناس أن تُقصف المدارس كما تُقصف المخابز وقت تجمع الناس لشراء الخبز، وهو القوت شبه الوحيد لكثيرين.
نصحونا في بداية الأحداث بشراء ذهب بكل قرش نمتلكه، أو على الأقل تحويل العملة إلى دولار أو عقار حفاظاً على أموالنا البسيطة من انخفاض قيمتها الشرائية. لكن للأسف! فالعقار يتهدّم فوق رؤوس أصحابه، والذهب والدولار عرضة للسرقة أو الحريق.
كانوا يقولون: الخطر أن يكون بيتك في الطابق الأعلى، لكن وجدنا أن كل الطوابق معرضة للخطر. حتى الملاجئ التي تحت الأرض لم تسلم من القصف، ففي أبسط الأحوال يمكن أن ينكسر زجاج نوافذها من قوة صوت القذائف، أو قد تدخل منها رصاصة طائشة فتقتل أي واحد. هذا عدا عن الرعب والذعر الذي يصيبنا من الأصوات، وخصوصا الأولاد.
هذا جزء بسيط من معاناتنا اليومية، إذ لا أستطيع أن أصف كل شيء، لكن أقول: الحمد لله على كل حال، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، "رب إني مغلوب فانتصر".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين