رد الطعن عن حديث (وبيوتهن خير لهن)

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد طالعت للأستاذ صالح السهيل مقالا في إبطال الحجة بخبر (وبيوتـهن خير لهن) من جهة الطعن في إسناده ومتنه، فعلقت عليه هذه العجالة، فأقول وبالله الثقة:

حاصل ما في مقاله يتلخص في أربعة أمور:

أولا: قال الأستاذ: فأشهر هذه الأحاديث ما رواه ابو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتـهن خير لهن) فهذا الحديث في أصله صحيح، لكن زيادة (وبيوتـهن خير لهن) شاذة، فقد تفرد بها حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر، وقد روى نافع ومجاهد الحديث دون هذه الزيادة، وهما أوثق من حبيب وأكثر عددا، فكيف وحبيب أصلاً مدلس، وقد روى الحديث بالعنعنة؟ ثم إن هذا الحديث رواه أبو هريرة وعائشة وزيد بن خالد أيضا، دون هذه الزيادة.

وأقول: تضعيف الخبر بذلك لا يتم، لأن حبيبا سمع من ابن عمر، وإذا دلس عنه فإنه يدلس عن ثقة وهو في الغالب عطاء بن أبي رباح، كما ظهر بالتتبع، وحديثه هذا مشهور تداوله الفقهاء ولم يعله أحد بالتدليس بل صححه الحافظ ابن دقيق العيد في (الاقتراح) لأن الحفاظ قد نصوا على أنه لم ينكر من حديثه إلا حديث القبلة للصائم وحديث المستحاضة.

وأيضا قد صرح حبيب نفسه بأنه يدلس فنقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول: (لو أن رجلا حدثني عنك ما باليت أن رويته عنك) يعني وأسقطته من الوسط، ومراده إسقاط الثقة وقد صنع هذا في غير حديث بإسقاط عطاء ونحوه من الثقات. 

وهذا لا يضر، ولا يعقل أن يدلس ويخبر عن نفسه بذلك فإن هذا يسقط الثقة بحديثه، لكن إذا علم أن من أسقطه ثقة لم يضر، وهذا على تقدير أنه دلس في حديث الباب وإلا فلا دليل على ذلك، ولهذا عمل الأئمة بـهذا الخبر وتداولوه.

وأيضا فالذي نختاره أن تدليس الثقة لا يكون علة في الخبر مطلقا، بل الأصل قبول خبره بالعنعنة كما هو ظاهر تصرف بعض الحفاظ، لأن الأصل في خبر الثقة العدل القبول ولا يلزمه أن يصرح بالسماع وما يقوم مقامه مطلقا، لأنه قد ينشط للتصريح به وقد يستروح للاختصار فيرويه بالعنعنة، ولهذا فالراجح أنه لا يعل حديث بمجرد عنعنته حتى يصرح إمام معتبر بأن هذا الحديث بعينه قد دلسه، أو تنهض قرائن صحيحة على تدلسه.

وهذا ما ظهر لي بأخرة خلاف صنيع كثير من المتأخرين، ولهذا صحح الحاكم خبر حبيب هذا الذي في الباب لأن سماعه صحيح ثابت من ابن عمر، كما قال، ولهذا صحح حديثه هذا النووي في (الخلاصة) على شرط البخاري وصححه ابن دقيق العيد كما مر، وصححه العراقي في (التقريب) وأشار ابن عبد البر في (التمهيد) إلى ثبوته عن ابن عمر، وصححه ابن خزيمة وحسنه البغوي في (المصابيح) والسيوطي، وصححه والعظيم آبادي والألباني بشواهده، وذكر الرحماني شارح (المشكاة) أن البيهقي صححه.

ويقويه أن كثيراً من الحفاظ يغتفرون العنعنة من المدلس إذا قامت القرائن على صحة خبره بالعنعنة، كرواية الثقات عنه من طرق كثيرة، وكونه من التابعين مثل حبيب بن أبي ثابت راوي هذا الخبر، أو لرواية ثقة رفيع عنه وقد رواه هنا العوام بن حوشب وفيه قال الإمام أحمد: (ثقة ثقة). 

وهنا نكتة في تقوية هذا الخبر وهو أن من قرائن التقوية أن يكون الحديث مما يبتلى به الراوي ويتعانى حفظه لحاجته إليه، وقد كان العوام بن حوشب من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قاله يزيد بن هارون، وقال هشيم: (ما رأيت أقول بالحق من العوام) ولا ريب أن هذا الحديث متعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن وظيفة المحتسب مراقبة حشمة النساء في الطريق، وقد يحتاج إلى تذكيرهن به إذا كان في الطريق خطر عليهن أو أظهرن شيئا مما يخدش الحياء. 

ومن القرائن أيضا تلقي الأمة له بالقبول وعملهم عليه، وقد أطلق شيخ الإسلام ابن تيمية في (فتاويه) عمل نساء المسلمين بـهذا الخبر فقال: (وكن نساء المسلمين يصلين في بيوتـهن).

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في (الأحكام): (لقد دخلت نيفا على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالا، ولا أعف من نساء نابلس، التي رمي ـبها الخليل في النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نـهاراً إلا يوم الجمعة، فإنـهن يخرجن إليها حتى يمتليء المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه).

وما ذكره الأستاذ صالح السهيل من إعلاله بأن مجاهداً ونافعا روياه دون الزيادة لا يضر لأنه لا مخالفة بين روايته وما روياه، بل الجمع ممكن متجه بحمل قوله (وبيوتـهن خير لهن) على حال عدم أمن الفتنة أو خوف الطريق، أو أنه خرج مخرج المبالغة في الستر والصيانة، أو سداً لذريعة تبرج النساء الذي يدعو إليه كثرة خروجهن، لتشوفهن إلى الزوج وطلب الرجل كما في الصحيحين عن عائشة أنـها قالت: (لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل).

وفي مصنف ابن أبي شيبة بسند جيد عن ابن مسعود أنه حلف فبالغ في اليمين: (ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاة في بيتها إلا في حج أو عمرة، إلا امرأة قد أيست من البعولة) وروي مرفوعا ويقوي الرفع أنه مما لا يقال بالرأي المجرد، وبه تعلم أن عدم وقوع هذا الحرف في رواية من ذكر من الصحابة كعائشة لا يلزم منه عدم صحته.

تنبيه: هذه الزيادة بلفظ (وبيوتـهن خير لهن) أخرجها أحمد وابن خزيمة في قصة ابن عمر مع ابنه بلال، وقوله: إنا لنمنعهن، فقال ابن عمر: أحدثك عن رسول الله وتقول نمنعهن، لا كلمتك أبداً، فما كلمه حتى مات، وهو في (الصحيح) دون زيادة (وبيوتـهن خير لهن) وإنما تنكبه الشيخان لأنه ليس على شرطهما، فإنـهما إنما رويا لحبيب عن غير ابن عمر، ولم يرويا شيئا من حديثه عن ابن عمر، ولا رويا للعوام عن حبيب شيئا، فلا يستقيم إعلال الخبر بـهذه الزيادة بأن الشيخين تنكباه بـها، لأن الحديث عند البخاري من رواية نافع عن ابن عمر، وعند مسلم من رواية سالم وبلال صاحب القصة، وبه يعلم غلط من صححه على شرطهما كالحاكم أو على شرط واحد منهما، وقد ألمع الحافظ الضياء إلى ذلك والحديث بالزيادة على شرطه جيد، لأنه سكت عليه وقد نص على أنه ينبه على ما فيه علة.

وعلى التنزل في تضعيف الخبر بتدليس حبيب فشواهده الآتية تقويه بلا ريب عند كل عارف بالحديث، ولهذا قال الأثيوبي شارح النسائي: (لكنه ينجبر -أي تدليس حبيب- بالأحاديث المذكورة، وبالجملة فأحاديث الباب صحيحة، فتضعيف ابن حزم لها، وكذا دعواه النسخ فيها على تقدير ثبوتـها، مما لا يلتفت إليه) وكذا قال في (شرح مسلم) وأشار إلى تقويته بشواهده السيد رشيد رضا في (المنار).

ثانيا: قال الأستاذ: ومن هذه الأحاديث ما رواه ابو داود من حديث ابن مسعود قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتـها في حجرتـها، وصلاتـها في مخدعها أفضل من صلاتـها في بيتها) ولا يصح، فإن فيه قتادة، وهو مدلس وقد عنعن.

قلت: لكن عنعنته تغتفر بما صح عن ابن مسعود أنه قال: (ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاة في بيتها) وقد رواه بعضهم مرفوعا، وعلى تسليم ترجيح رواية الوقف فهو شاهد قوي لحديث ابن مسعود هذا، تغتفر معه عنعنة قتادة، لأن روايته هذه موافقة لفتياه وقوله. 

ولهذا قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره): (وهذا إسناد جيد) وصححه الحاكم والنووي في (الخلاصة) وفي (شرح المهذب) والذهبي والألباني وصححه الشيخ مقبل الوادعي على شرطه الشديد في التصحيح. 

وقال الحافظ العراقي في (تخريج الإحياء): (ورواه البيهقي من حديث عائشة بلفظ (ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد، وإسناده حسن، ولابن حبان من حديث أم حميد نحوه) وفيه اختلاف في وقفه ورفعه على أبي الأحوص وبتقدير ترجيح الوقف فله حكم الرفع لأنه مما لا يقال بالرأي، وإسناد الموقوف صحيح عن معمر عن أبي الأحوص به، قلت: وحديث أم حميد هذا الذي أشار له العراقي، قد حسَّنه الحافظ ابن حجر، كما في (الفتح). 

ثالثا: قال: ومنه ما رواه أحمد عن أم حميد الساعدية مرفوعا: (صلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) قال: فأمرت فبُني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله وفي إسناده عبد الله بن سويد الأنصاري، وهو مجهول.

وقد تبع في هذا صاحب (أنيس الساري) وما قاله غلط من وجوه:

أحدها: أن ابن سويد مختلف في صحبته فقيل هو الحارثي، ولأجله عده ابن الأثير في الصحابة، وقيل بل هما اثنان كما يظهر من صنيع البخاري وأبي حاتم، وهو ظاهر ترجيح الحافظ في (التعجيل) وغيره، وعلى ترجيح أنه تابعي فهو مستور الحال لم يرو عنه إلا داود بن قيس وذكره ابن حبان في (ثقاته) على قاعدته لأن الستر والعدالة في التابعين أكثر وإليهم أقرب، فما لم يوجد فيه قدح من إمام فالأقرب عدالته واستقامته، ويقويه:

ثانيها: أنه لم ينفرد به عن أم حميد، فرواه ابن أبي شيبة وعنه ابن أبي عاصم وكذا أخرجه أبو نعيم في (الصحابة) من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الحميد بن المنذر الساعدي عن أبيه عن جدته أم حميد قالت: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمنعنا أزواجنا أن نصلي معك ونحب الصلاة معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاتكن في بيوتكن أفضل من صلاتكن في حجركن، وصلاتكن في حجركن أفضل من صلاتكن في الجماعة). 

وفي سنده ابن لهيعة وحديثه حسن في الشواهد كما قال الإمام أحمد، فهو شاهد جيد لحديث ابن سويد وبه يصح الخبر.

وتضعيف الخبر بجهالة عبد الحميد بن المنذر كما صنع ابن حزم، جهل منه بحاله، وقد تعقبه ابن الملقن فيما أملاه على أحاديث (المنهاج) فقال: (حاشاه؛ قد روى عن أنس وعنه أنس بن سيرين وابن لهيعة وقال النسائي ثقة وذكره ابن حبان في ثقاته) ولهذا صحح الخبر ابن خزيمة وابن حبان وحسنه الحافظ ابن حجر، وقال متعقبا كلام ابن حزم في محاولته الطعن في الخبر من جهة متنه: 

(ووجه كون صلاتـها في الإِخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء منه التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت، وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنـها علقتة على شرط لم يوجد بناءً على ظن ظنته، فقالت: "لو رأى لمنع" فيقال عليه: لم ير ولم يمنع، فاستمر الحكم، حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع، وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن، فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضًا فالإِحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإِشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقيد بالليل كما سبق).

ولهذا قال الراوي كما في (تاريخ ابن أبي خيثمة): (فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمها، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله) وهذا المعروف عن السلف من حرصهم على إنفاذ أمره عليه الصلاة والسلام.

ثالثها: وله شاهد أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن العلاء ثنا أسيد الساعدي عن سعد بن المنذر عن أم حميد امرأة أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وإسناده جيد وهو من رواية آل الساعدي، وهو شاهد جيد لما قبله. 

ثم نبهني الأستاذ صالح نفسه إلى ضعف يحيى بن العلاء الشديد، فراجعته وهو كذلك وكنت ذهلت عنه، وتبين لي بالمراجعة أنه يرويه عنه محمد بن النعمان وهو مجهول كما قاله العقيلي، فأضربت عن تقوية الحديث به، وفيما مر ويأتي ما يغني عنه. 

وأخرج البخاري في (التاريخ) والبيهقي من طريق شريك عن يحيى بن جعفر بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد) قال البخاري: وقال محمد بن عبيد الله: عن حاتم بن إسماعيل، عن يحيى بن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... نحوه.

وسنده ضعيف؛ ابن أبي لبيبة تكلم فيه ابن معين ووثقه ابن حبان، ويحيى ولده ضعيف، وأشار البخاري إلى ما فيه من اضطراب، وكأنه من ابن أبي لبيبة هذا غير أنه كأنه رجح الوجه الأول فقدمه، فالسند ضعيف.

وقد روي عن أم سلمة، فأخرج أحمد عن ابن لهيعة حدثنا دراج عن السائب مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير صلاة النساء في قعر بيوتـهن) ولم ينفرد به ابن لهيعة، فقد تابعه عمرو بن الحارث، وأخرجه أيضا القضاعي والبيهقي، وسنده ضعيف لضعف دارَّج أبي السمح، وإن كان الحافظ قطع في التقريب بأنه صدوق إلا في حديثه عن ابن الهيثم، ولأجله حسَّنه الألباني، لكنه صالح في الشواهد بكل حال بل قال الشيخ شعيب: (إسناده حسن في الشواهد).

وذكر ابن حزم من طريق طريق عبد الله بن رجاء الغداني أنا جرير بن حازم عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن تصلي المرأة في مخدعها أعظم لأجرها من أن تصلي في بيتها) الحديث، وأعله ابن حزم بعبد الله بن رجاء الغداني ونقل عن الفلاس أنه قال فيه كثير التصحيف والغلط وليس بحجة، فتعقبه ابن الملقن بأنه ناقض فقال عنه في موضع آخر (صدوق) ثم قال ابن الملقن: (قال أبو حاتم ثقة رضا وقال ابن المديني اجتمع أهل البصرة على عدالته واحتج به البخاري في صحيحه) فالخبر قوي بمفرده فكيف بما تقدم من الشواهد.

رابعا: قال الأستاذ: والنظر الشرعي يؤيد عدم الأخذ بهذه الأحاديث، فإن في خروج المرأة الى المسجد عملاً وجهداً ومشيا، فكيف لا يحتسبه الله في حسناتها ويجعلها كمن صلت في بيتها وهو لا يظلم مثقال ذرة؟ وكيف تكون صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المساجد المفضلة؟ ولله در ابن حزم، فقد جعل تلك الأحاديث على تقدير صحتها من المنسوخ، حيث خفيت عليه علتها، وقال في المحلى: (لو كانت صلاتهن في بيوتهن أفضل لما تركهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعنّين بتعب لا يجدي عليهن زيادة فضل، أو يحطهن من الفضل، فهذا ليس نصحا).

وأقول: تعليل ابن حزم ضعيف، إذا لا يلزم من التخيير والمفاضلة بين أمرين، المنع من أحدهما، وينقلب عليه دليله بأنه إنما أمر بعدم منعهن كي لا يفهم من عموم قوله إن صلاتهن في بيوتهن أفضل، المنع، كما فهمه بلال بن عبد الله بن عمر، ولو كانت صلاتهن في المساجد أفضل لما أخبر بعدم منعهن، وأما الفضل والثواب فهو متنوع هنا، فإن صلاتهن في البيوت أفضل لأجل الستر، وصلاتهن في المساجد أفضل لأجل ثواب الجماعة، فتعارض جانب الستر مع جانب الأجر، ورجح الشارع الستر في الفضل مع عدم منع المفضول، لأن الستر أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع، فإن حفظ الأعراض أولى من طلب الثواب الزائد.

ولهذا أفتى بعض الفقهاء كالصاحبين وغيرهما عملا بالعرف في زمانهم لكثرة الفساق، بمنع النساء من المساجد، ودعوى النسخ من ابن حزم تحكم لا دليل عليه، بل عمل السلف على خلافه فإن النساء لم يزل عملهن على الصلاة في البيوت أو الجماعة على التخيير، من العصر النبوي فما بعده، ويلزم ابن حزم القولُ بوجوب الجماعة على النساء في المساجد، على أصله في وجوبها على الرجال في المساجد، وهذا لا قائل به، لأنهن إذا استوين مع الرجال في فضل الجماعة، لزم أن يستوين معهم في حكمها واللازم فاسد فالملزوم مثله.

وقوله: (فإن في خروج المرأة الى المسجد عملاً وجهداً ومشيا، فكيف لا يحتسبه الله في حسناتها ويجعلها كمن صلت في بيتها وهو لا يظلم مثقال ذرة) ليس بلازم ولم يقله أحد، فإن الإتيان بالعمل المفضول المباح وترك الفاضل، لا يلزم منه إبطال ما في المفضول من الأجر، كمن أتى بواحد من خصال الكفارة، فأتى بالأدنى منه فإنه يجزئه وتبرأ به ذمته. 

وقوله: (وكيف تكون صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المساجد المفضلة) قلنا: قد صح عن ابن مسعود استثناء الصلاة في حج أو عمرة، وهذا لأجل المناسك، وأما في غيرها فظاهر الخبر إنما يدل على التفضيل وليس فيه أنه لا ثواب لهن يحصل بصلاتهن في الجماعة سواء صلين في المساجد الثلاثة أو غيرها، بل الأجر المضاعف المشروع في هذه الثلاثة المساجد حاصل لهن، وإن اخترن الصلاة في بيوتهن بقصد الستر فمقتضى المفاضلة في الحديث أن لهن ثوابا أعظم من ثواب صلاتهن في الثلاثة، ويقويه أن الأصل في قاعدة الثواب أن ما لم ينص على قدر ثوابه أعظم مما نُص عليه، ولم ينص الشارع على قدر ثواب صلاتهن في البيوت فهو أفضل، كصلاة الرجال النافلة في البيوت فإنه أفضل بالنص الصحيح من النافلة في المساجد، وهذا قياس صحيح ينكسر به سؤاله ويبطل.

تنبيه: ذكر الأستاذ أبو حذيفة بصارة في (أنيس الساري) أن رواية (وبيوتـهن خير لهن) أخرجها مسلم ونقله عن الحافظ، وهو كذلك في (الفتح) وهو خطأ صوابه أبو داود فليصحح، وقد خرّجه الحافظ من (السنن) في موضع آخر من (الفتح) ووهم ابن تيمية في (فتاويه) فعزاه بـهذا اللفظ إلى المتفق عليه، وليس هو فيهما ولا في واحد منهما، وكذا غلط في عزوه المناوي في (الفيض) فعزاه لمسلم.

آخره

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين